د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
مع بدء فيروس كورونا ( كوفيد19) في الانتشار حول العالم، كان التعليم أول من يغلق أبواب مدارسه وجامعاته أمام الطلبة، ولأن المسألة تعدت الزمان والمكان، وأخذت من وقت الطلبة الكثير، أصبح الانتظار منتجا للقلق معكرا للمزاج، غير مرغوب فيه من مجتمع المتعلمين خاصة مع تدني مستوى التفاؤلية بانفراج سريع للأزمة ، وكان على التعليم أن يجند قدراته، ويبدأ مرحلة تحدي جديدة في مواجهة كورونا ولكن دون فائدة، ومع ذلك ظل الطلبة والمعلمون وأولياء الأمور وشرائح المجتمع الأخرى تعلق الآمال على التعليم في انحسار المرض والدفع بجهود الدول لتحقيق تحول يذكر على الأرض، غير أن التعليم موفقا في رسم ملامح التغيير وعودة الأمور إلى ما كانت عليه، وظلت الالتزامات الاقتصادية صاحبة المشهد الأوسع في هذه الأحداث، وما زالت التعليم غائبا عن ساحة المواجهة، بل عاش في أحد فصولها مرحلة الاقصاء من التفكير في صناعة البدائل ، مكتفيا بتعليق الدراسة وإغلاق المدارس.
وحتى لا نستطرد أكثر من ذلك ، فلا يزال التعليم خارج السرب لم يوف باستحقاقات المهمة ولم يبتكر الأدوات واللوازم والوسائل التي تمنع انتشار هذا المرض عوضا عن فتح أبوابه لطلبة العلم وتوفير الحماية اللازمة والأمان لهم ؛ ولأن للتعليم قاعدة شعبية كبيرة في المجتمع، وله موقعه في قلب كل بيت، وحضوره في كل مشهد اجتماعي وأسري، جاءت المساندة للتعليم من قبل من يحملون هذا الهاجس ويعيشون التحدي ويشعرون بمرارة الانقطاع عن الدراسة أو تعليقها من الطلبة وأولياء الأمور، إذ الاستمرار على الحال نفسه لن يفتح الآفاق بزوال المرض، ولن يقدم مؤشرات إيجابية تفاؤليه لانحساره، بل سيظل المجتمع فيه يعيش حالة فقدان الأمل وزيادة الوهن وارتفاع مستوى القلق.
من هنا لم يستطع المجتمع كتم أنفاسه أو السكوت عن حقه في تعليم أبنائه، لذلك حانت لحظة المواجهة بوعي ودقت ساعة الصفر جرس الإنذار لتنطلق من المجتمع بكل شرائحه معلنة قبول التحدي، داعما لجهود اللجنة العليا المكلفة في استصدار قرارها ببدء العام الدراسي الجديد، في مسار يحفظ للتعليم حقه ويؤسس لمنهجية جديدة تعيد انتاج منظومة التعليم بما يتناغم مع مستجدات الظروف والحالة الوبائية ويحقق الأمن والسلامة لأبناءنا الطلبة ، ورغم التفكير السلبي حول ما تم طرحه من مسارات التعليم عن بعد والانحرافات المتوقعة فيه – وهي لا تتعلق ببنية التعليم وفلسفة عمله؛ بل بما يتوفر لها في المجتمع من جاهزية وحضور- في مجتمع لا تزال الثقافة الالكترونية والحاسوبية الموجهة للتعليم والتعلم الممنهج فيه محدودة أو ليست واسعة الانتشار، وإدراك آلية التعامل مع الوضع الجديد بحاجة إلى المزيد من الوقت، والكثير من الجهود التي يفترض أن تبذلها مؤسسات التعليم وشركات الاتصالات وغيرها في سبيل تهيئة هذا المسار للطلبة، غير أن هذا التحدي لن يدوم طويلا في مجتمع فتي تبلغ نسبة الأطفال والشباب فيه ( 29 سنة فأقل) 64.3% من إجمالي العمانيين، وتعتبر الفئة الأكبر من الأطفال دون عمر 5 سنوات والتي تمثل 15% من العمانيين في عام 2018، لذلك كان شغفه بامتلاك هذه الثقافة كبير جدا، وهو قادر مع الممارسة والمحاكاة على تعليمها وتعلمها بكل مرونة ويسر.
ومع التحديات التي واجهتها منظومة التعليم المدرسي من حيث مستوى الجاهزية وضعف الكفاءة الإدارية لشبكة المعلومات وافتقار المنصات التعليمة للجاهزية الكاملة، إلا أن الإرادة المجتمعية وجاهزية المواطن وحرصه على تعلم أبنائه وتعليمهم، ومستوى التفاؤلية التي يحملها أبناء هذا الوطن الغالي، شكلت نقطة التحول التي أعادت التفكير في التعليم عن بعد وأهمية استمراريته، كونه محطة انطلاقة جديدة في تجريبه كواقع عملي وسلوك ممارس، وخطوة جديرة بالاهتمام للوصول إلى منتج تعلمي قادر على استيعاب الحالة الوطنية والتعاطي معها بكل اريحية ، وأثبتت إرادة المواطن وأبنائنا الطلبة القدرة على تحقيق انجاز نوعي رغم شبح كورونا المظلم ، ومع الأسبوع الأول من بدء العام الدراسي بدأت تلوح في الأفق مساحة أكبر من التفاؤلية الداخلية والقناعة الذاتية والسلام الداخلي الذي يؤمن به الجميع بانتهاء هذه الجائحة ، في مؤشر الحالة الوبائية واتجاه إصابات فيروس كورونا بالسلطنة إلى الانخفاض الملحوظ، وإن كان انخفاضا بسيطا؛ إلا أنه أعطى مؤشرا تفاؤليا إيجابيا بان التعليم شغل اهتمام المجتمع ومنحهم المساحة الأكبر في الجلوس مع أبنائهم وتعليمهم كيفية التعامل مع المنصة التعليمية خطوة بخطوة ، ولم يعد يعنيهم ذلك الاهتمام برصد أو انتظار ما تفصح عنه تقارير( كوفيد 19 )حول أعداد الإصابات كما هو الحاصل قبل بدء العام الدراسي؛ إذ وجد الجميع في التعليم عن بعد متعة البحث والاكتشاف والتجريب ومشاركة الخبرة والمبادرة الأسرية وتنشيط دور ذوي الاختصاص من أبناء الاسرة وشغف استخدام الحاسوب والولوج للتقنية .
عليه ظلت الإرادة المجتمعية حاضرة في مستوى التوقعات، لتصنع من هذه التحديات ملحمة بناء وطنية قادمة في إثبات بصمات حضور وهوية تعليمية تتجذر في قواعد العمل الوطني وتتناغم مع أبجديات ما حملته رؤية عمان 2040 من فلسفة التغيير القادمة، وأهمها تغيير نمط التفكير في إدارة الظروف الاستثنائية، وتوظيف الفرص، وإنتاج العقل الاستراتيجي الوطني القادر على رسم ملامح اكبر لحياة منتجة، والتوجه نحو تجريب التعليم عن بعد كمسار تعليمي يعبر عن طبيعة المرحلة ليؤسس في النفس شغف تعلّم مبادئه وفهم مفرداته، وليعطي الحراك المجتمعي الفاعل مع مقتضيات الحالة التعليمية حافز القوة في استشعار الجميع بمسؤوليته نحو بدء عام دراسي يحقق الطموحات على الرغم من التحديات والمعطيات التي تواجهه، لذلك فنحن متفائلون بأن التعليم عن بعد مرحلة تجريب مهمة يجب أن يصنع المواطن مسارها ويحافظ على استمراريتها واشراقتها ولا ينظر لمسألة جاهزية المنصة التعليمية من عدمه بأنها بداية محزنة أو مؤشر على عدم نجاح التعليم عن بعد، بل دورس متعلمة، ومساحات للتفكير خارج النص تضع مؤسسات التعليم والاتصال والتشريع والبحث العلمي وغيرها أمام مسؤولية إعادة مسار عملها وأنماط تفكيرها وإنتاج نماذج تطبيقية حاضرة لها في ميدان التجريب والمنافسة.
أخيرا ها هو العام الدراسي الجديد قد فتح أبوابه رافعا أعلام الوطن شامخة تعانق السحاب، واستنهض همم الأجيال حوله تعززهم إرادة الآباء والأمهات، مرحلة استثنائية في التعليم جسدت حقيقة الواقع واستوعبت مستجداته وعبر مسارين أحدهما تعليم مدمج لبعض الصفوف، وتعليم عن بعد ينطلق من البيت مساره، ويتجه للوطن غراسه ، يحمل الكثير من الفرص، ويترجم اليوم العديد من نظريات التعلم الذاتي واستمرارية التعلم وحق التعليم، ويعيد إلى الواجهة مسار التعليم المنزلي أو البيتي ولكنه بآلية جديدة وبأشكال تعبيرية مختلفة ، ليثبت بكل جدارة بأن التعليم عندما تسانده إرادة المجتمع سينتصر على كل الأزمات ويحقق أهدافه ويفتح أبوابه ويرسم ابتسامه مشرقة في وجوه المتعلمين نافذة لحياة ملؤها الثقة والامل والعطاء والانجاز، لتضيئ مشاعل النور وصروح العلم سُرج الحياة معلنة استحقاقات نجاح للتعليم صنعتها الإرادة المجتمعية وقام على رعايتها أبناء عمان وبناتها محاضن العطاء وشموخ الوفاء.