د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
مجلس الدولة
جاء خطاب حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- في عيد النهضة الخمسين، حاملا معه العديد من الموجهات والمرتكزات في أبجديات بناء الدولة وصناعة الإنسان، وقدرته على التعاطي مع الأزمات وإدارة الأحداث والمتغيرات والتفاعل مع المقلقات والمنغصات مستلهما منها فرص الإنجاز ” تُمثّلُ الأزماتُ ، والتحدياتُ، والصعوباتُ سانحةً لأنْ تختبرَ الأممُ جاهزِيتَها ، وُتعَزِّزَ قُدراتِها، وقد فتحت الأزمةُ الراهنةُ المجالَ للطاقاتِ الوطنيةِ ؛ لتُسهِمَ بدورِها، في تقديمِ الحلولِ القائمةِ، على الإبداع ِوالابتكارِ وسَرَّعَت من وتيرةِ التحولِ إلى العملِ الرقميِّ وتوظيفِ التقنيةِ ، في مجالاتِ العملِ الحكوميِّ والخاص، على نحوٍ لم يكنْ لِيَجِدَ الاستعدادَ اللازمَ ، والاستجابةَ المناسبةَ، التي وجَدَهَا في هذهِ الظروف”.
ولما كان العالم اليوم يعيش أزمات تراكمية، كثيرة في وصفها ،عميقة في تأثيرها، متداخلة في مسبباتها، وضعت العالم أمام مشهد جديد عليه أن يتعامل معه بحكمة بالغة وإنسانية راقية وقيم عالية ومنظورات أفضل لبناء الإنسان وتنمية الأوطان وترسيخ معايير السلام والأمن والاستقرار، فهي بذلك محطة انطلاقة لتغيير الحال وإعادة توجيه المسار وتقليل الفاقد والتثمير في نواتجها لصالح الإنسان واستقراره وبناء الأوطان ونهضتها، منطلقا من مفهوم أعمق للأزمات وإدارة أحداثها، كونها ليست نهاية المطاف، وأن الظروف الصعبة وتعسر الأحداث لا بد لها من مخرج، فلا يعني تراكم الأزمات لا تعني الركون للفشل أو الاستسلام للعوارض، بل هي محطات لإعادة انتاج حلول الواقع وفرصة للبناء وتجديد الهمة واستفراغ الوسع واستنطاق القيم وتجديد الذهن وتغيير طرائق البحث وأدوات العمل وتوليد البدائل وإعادة مساحة التفكير في المهمة الجديدة عبر قراءة كل المعطيات والأحداث والاستفادة من أرصدة النجاح والتجارب السابقة والحد من العمليات المتكررة التي قد تضيع الجهد أو تقلل من كفاءته ونجاعته، ورسم خريطة العمل القادمة وسيناريوهات التعامل مع تفاصيلها بطريقة تتناغم مع طبيعة الظروف والأحداث والمستجدة الناتجة عن تأثيرات الأزمة؛ ومحطة اختبار للشعوب والمجتمعات في مستوى جاهزيتها وكفاءتها في إدارة الازمات وما تمتلكه من أرصدة النجاح المعززة بحضور الوعي وحسن التخطيط وكفاءة إدارة الموارد وتكاملية الجهود وتفعيل خطوط التأثير الوطنية المختلفة في التعامل مع أحداث الأزمة ومستجداتها، في ظل إعادة بناء مفهوم العمل الجمعي وتجديد الروح التطوعية العالية والالتزام بتعليمات القيادة في إدارة حركة التغيير في سيناريوهات العمل وإحداثيات الحالة وعمليات التعاطي مع الأزمة الناتجة في تهيئة المجتمع لها وفي اثناء حدوث الأزمة وما بعد الأزمة، بالشكل الذي يعزز من إنتاج الحلول وصناعة المبادرات وتقوية الهاجس المجتمعي وصلابة المنطلق وبعد الرؤية التي تقرأ هذه الأزمات.
لقد فرضت جائحة كورونا ( كوفيد19) على العالم واقعا جديدا وتحولات جذرية في كل قطاعات الحياة الاقتصادية والاجتماعية وأوجدت الكثير من المفاهيم المتغايرة مع ما اعتاد عليه المجتمع، إلا أنها شكلت في المقابل محطة متجددة صنعت الكثير من الآمال وأعطت المجتمعات مساحة أفضل في تجريب الحلول وإعادة هيكلة الموارد، وضبط الممارسات الاقتصادية والمجتمعية وتشخيص القناعات وحسن توجيه العادات والتقاليد والمفردات الاجتماعية والتثمير فيها لصالح أمن المجتمعات وسلامة الأفراد وترقية حس الشعور المجتمعي بها كداعم أصيل لفقه التغيير الاجتماعي وتجديد منصات والتفاعل المجتمعي حولها، وإعادة هندسة السلوك البشري بشكل يتناغم مع معطيات الظروف والعيش في الظروف الصعبة، وهو الأمر الذي يجب أن يشكل منطلقا لكل منظومات المجتمع الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية في البحث عن مدخلات أخرى أكثر قدرة في التعاطي مع هذه الأزمة والتقليل من مخاطرها وتوجيه الأنظار إلى تعزيز الكفاءة البحثية والعلمية وتعزيز جاهزية المختبرات وتوفير الممكنات الداعمة لقراءة أحداث هذه الأزمات وسبر أعماقها وتوليد الحلول التي تتناسب مع معطيات التحول القادمة لمجتمع ما بعد كورونا.
ولما كان قطاع التعليم من بين أكثر القطاعات الحيوية المتضررة من انتشار فيروس كورونا ( كوفيد19)؛ فإن الخطاب السامي لجلالة السلطان المعظم يضع أمام التعليم الوطني اليوم مسؤولية كيفية الاستفادة من هذه الأزمة والتعاطي مع معطيات هذه الجائحة وجوانب التحول القادمة التي يجب أن تطال بنية التعليم ومساراته وانواعه ونواتجه وقبل ذلك غاياته وأهدافه واختصاصات كل مرحلة فيه وادواته ومدخلاته وعملياته الداخلية، لتدخل في عمق تخصصاته ومهاراته وبرامجه، مرورا بهيكلة التعليم ووظائفه وتشعب مؤسساته وتعدد مستوياته ومراحله، وأهمية البدء في رسم ملامح التعليم الوطني القادم الذي يصنع من رحك الأزمات والأحداث محطات نجاحه وتقدمه وتطوره ، وإدخال تغييرات جذرية في بنيته الأدائية وهيكلته التنظيمية.
وبالتالي ما تقتضيه المرحلة من إعادة رسم مسار التعليم الوطني في ظل ممكنات القوة التي تحققت له ممثلة في الدعم السامي لجلالة السلطان المعظم للتعليم ومتابعة المقام السامي للشأن التعليمي، أو التحديات والإخفاقات المرتبطة بتطبيق التعليم عن بعد والإشكالات التي واجهتها المنصة التعليمية في تحقيق تعلم كفء ومستدام يتسم باليسر والسهولة والكفاءة والمنهجية من تبني سياسة وطنية عليا لمراجعة سياساته وخططه وبرامجه وتشخيص لأدواته وآليات عمله ومناهجه وأنشطته ومبادراته وما يطرحه من مساقات تعليمية وخطط دراسية والمضامين التي ترتكز عليها فلسفة بناء المناهج الدراسية وإعداد المعلم وبناء الموقف التعليم وثقافة التعليم الصفي والمدرسي والجامعي بما يتوافق مع معطيات المستقبل وإنتاجه بطريقة أكثر ابتكارية ومهنية والتزاما؛ فإن مؤسسات التعليم الوطنية اليوم بكل مساراتها وأنواعها ومستوياتها مدعوة إلى التفكير في ابتكار بدائل نوعية تتناسب مع معطيات هذه الجائحة، وتوفير الحلول الناجحة والناجعة لها، وتنشيط حركة البحث العلمي والابتكار وتجريب التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي وتوجيه المراكز البحثية والمختبرات الطبية والعلمية والتوسع فيها، وتعزيز دور الشركات الطلابية وتقوية حضورها في الواقع الاقتصادي، وتفعيل مراكز البحوث الإنسانية والاجتماعية والنفسية ومراكز الرصد الاجتماعي بالجامعات في تبني التعاطي مع الابعاد النفسية والفكرية والتقليل من ارتفاع معدلات القلق لدى السكان من مواطنين ومقيمين الناتجة عن فيروس كورونا .
أخيرًا فإن الخطاب السامي لجلالة السلطان يضع التعليم كغيره من قطاعات الإنتاج والخدمات أمام حركة تحول قادمة في تعاطيها مع أحداث كورونا وتوظيفها لمسار هذه الجائحة في إنتاج فرص الأزمات، بحيث يكون التحول الحاصل في منظومة التعليم ملبيا للاحتياج، متناغما مع الهدف، متواكبا مع رؤية عمان 2040، ومجسدا لخطة التوازن المالي ( 2020- 2023)، صانعا لمحتوىً تعليميا أكثر أبتكارية وجودة وإلهاما واقترابا من الواقع والتصاقا بالمهارة وإنتاجا للحياة، وتوفير الخيارات المناسبة للمواطن للتعايش مع الظروف الصعبة والاعتماد على النفس وتحقيق الاكتفاء الذاتي ، منطلقا من مسار إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة وما يستهدفه من تعزيز الأداء الحكومي ورفع كفاءته؛ الطريق لإصلاح جذري للتعليم في عمان وتعزيز منظومة الجودة والكفاءة فيه.