د. رجب بن علي العويسي
يأتي تناولنا للموضوع في ظل تعدد الظواهر النفسية واتساع نطاق تأثيرها ومخاطرها على حياة الفرد والمجتمع وتعدد مسبباتها المرتبطة بالقلق والاكتئاب والإحباط والانعزالية وغيرها، حتى باتت أحد المقلقات الاجتماعية التي تدق ناقوس الخطر وتستدعي قراءة جادة لمعطيات السلوك النفسي السلبي ومسبباته والوقوف على مخاطره والحد من تأثيره، وتوفير الممكنات الشخصية والضمانات المجتمعية القادرة على احتواء السلوك النفسي وإعادة إنتاجه خاصة في ظل ما استجد عنها من ممارسات غير مألوفة وعادات غير مقبولة وما تثيره من ذعر وقلق وخوف لدى الأسر على أبنائها؛ ويطرح في الوقت نفسه تساؤلات على مؤسسات التعليم والصحة ومراكز الإرشاد النفسي بمختلف أشكالها حول جودة وكفاءة الخدمة النفسية وجاهزيتها وقدرتها على تحقيق التحول في سلوك المريض نفسيا، وامتلاكها أدوات اكتشاف الظواهر النفسية وحصرها والدلالات التي تحملها والخصائص التي تنبئ عنها وآلية التعاطي معها بحسب طبيعة الأعراض التي قد تختلف من شخص إلى آخر، وتوفير الدعامات النفسية للمريض، وقبل ذلك إعداد المجتمع لتقبل هذا الأمر واستعداده للتعاطي مع هذه الفئات على مستوى الأسرة، فمثلا هل يمتلك المجتمع الممكنات النفسية التي تساعده في تقديم حلول ناجعة للمريض نفسيا، وهل هو مهيأ وقادر بالفعل في التعاطي مع هذه المواقف خاصة في ظل ما يرتبط بسلوك المريض نفسيا من تباينات وتعبيرات بحاجة إلى المزيد من التخصصية في التعاطي معها وتفهم دلالاتها؟ وهل الجرعات النفسية المقدمة للمواطن من خلال مناهج التعليم والبرامج الإعلامية والتثقيفية كافية؟ وما مدى حضور برامج الصحة النفسية في بيئة العمل والممارسة المهنية والقرار المؤسسي ومنظومة الموارد البشرية؟ ثم هل أعددنا المواطن العماني للتعامل مع الصدمات النفسية في ظل تعدد الأزمات المجتمعية التي بات يعايشها سواء ما يتعلق منها بالحالات المدارية وجائحة كورونا (كوفيد19) والسياسات الاقتصادية التي اتجهت لها الحكومة مرورا بوقف الترقيات وضريبة القيمة المضافة وغيرها؟ كل ذلك وغيره يضع المنظومة النفسية الوطنية أمام مراجعات وقراءات تستوعب عمق الحالات النفسية والرقم الصعب الذي باتت تشكله في ظل تزايد حجم الضغوطات وتعقد الظروف.
وبالتالي الحاجة إلى مسار واضح في التعامل مع الظواهر النفسية، من المجتمع أولا ثم الحكومة وما تتخذه مؤسساتها المعنية من مبادرات في هذا الشأن وإيجاد التشريعات الداعمة في ظل خصوصية هذا الموضوع وحساسيته والهاجس الذي بات يشكله في مسار السلام الاجتماعي الداخلي، وعبر تنشيط دورة المناعة النفسية لدى المواطن في مواجهة الصدمات والظروف المرتبطة بالديون أو المنغصات أو الشعور بالفشل أو ضيق الحال أو النواتج المرتبطة بالأمراض النفسية وحالات التنمر والصرع واضطراب السلوك النفسي وارتفاع هاجس القلق والخوف لدى الفرد في تحقيق طموحاته، أو الناتجة عن الضغوطات النفسية التي يواجهها في العمل أو الأسرة أو المرتبطة بهاجس الشعور النفسي بالوحدة ورغبة الانعزالية من مشاركة الفرد في الاحداث الاجتماعية، أو العوامل المرتبطة بالخطاب الأسري ومساحة الحرية المتاحة في نطاق الاسرة أو التعامل الأبوي وغيرها من التراكمات النفسية التي يعايشها الفرد في حياته اليومية.
وعليه فإن انتشار الظواهر النفسية واتساع مخاطرها على حياة الأبناء واستقرار المجتمع في ظل المعطيات السابقة باتت بحاجة إلى موجهات وطنية مبتكرة تتسم بالاستدامة والكفاءة والتنوع والمهنية في إعادة قراءة المسار النفسي في حياة الفرد والمجتمع، بالشكل الذي يضمن تقليل الهواجس والاضطرابات النفسية والمشاعر السلبية وحالة القلق والخوف المتنامية لدى الفرد حول المستقبل والحياة في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية باتت ترمي بثقلها على كاهله وتستدعي المزيد من الصبر والتحمل والقدرة على المواجهة وامتلاك مهارة الانتظار وحس التفاؤل والإيجابية باستشعار عظمة الله في تغيير الحال وقلب الظروف، فيتعاطى مع هذه الموجهات في ظل مبدأ السلام الداخلي لديه وتعميق مفاهيم الإنسانية في سلوكه ليحفظ نفسه من التهور والاندفاع السلبي ويقي ذاته من الانفلات العصبي غير الواعي والخروج عن المألوف من الأفعال أو الأقوال أو المعتاد من العادات المقبولة مجتمعيا والتي باتت تثير المزيد من القلق وتطرح علامات الاستفهام والتعجب في ظل غموض أسبابها ومبررات تنفيذها.
من هنا تأتي أهمية مأسسة هذا المجال وحوكمته واتخاذ خطوات جادة نحو تغيير المفاهيم المغلوطة والتفسيرات الخاطئة المرتبطة بالسلوك النفسي، ورصد المؤثرات المجتمعية والتراكمات التي قد تتحول بفعل الزمن والإهمال إلى أمراض نفسية مزمنة، وتوفير أدوات الاكتشاف والرصد والتقييم والمتابعة الاختبارات النفسية التي تقرأ جوانب التقدم في الحالات المعروضة أمام ذوي الاختصاص، وتطرح في المقابل سيناريوهات بديلة حول حضور مناهج الصحة النفسية في مؤسسات التعليم والبرامج الإعلامية والنفسية والمنصات التدريبة وبرامج التوعية والتثقيف ومهارات إدارة الذات التي يحتاجها المواطن، تبدأ بتأصيل مفاهيم الثقافة النفسية وانتشارها في المجتمع والتوسع في مراكز التشخيص والعلاج النفسي بالمستشفيات الحكومية والخاصة، ووضع الضوابط والقواعد والأسس والمعايير التي تحدد مدخلاتها وآليات عملها والبرامج التي تقدمها والبيئات التي تعمل فيها.
هذا الأمر من شأنه أن يوفر مسارات وبدائل أكثر استدامة وفاعلية في التقليل من أثر هذه الظواهر النفسية على حياة المريض نفسيا ويشعره بإنتاجيته وتجسير الفجوة بينه وبين غيره من الأسوياء ويولّد لديه قناعات إيجابية بالتغيير وتجاوز الحالة وبناء الذات الإيجابية القادرة على رسم ملامح أجمل للحياة، بالإضافة إلى أن الاهتمام المجتمعي والمؤسسي بتوفير بيئة صحية متكاملة للمريض نفسيا أو من يحملون أعراض المرض، وتغيير قناعاته حول السلوك النفسي عامة والمريض نفسيا بشكل خاص في الحد من ردات الفعل السلبية أو النظرات غير المتكافئة للمريض نفسيا، وبالتالي يصبح التعاطي المؤطر مع الظواهر النفسية الحاصلة بمجتمعنا وفق مؤشرات الحالة المرضية واستيعاب مسبباتها والتفاعلات المرتبطة بها ونواتج المعايشة والملاحظة والاختبارات المخبرية، الطريق لمعالجة مستدامة لهذا الوضع المقلق، وامتلاك شرائح المجتمع المختلفة لمهارات الصحة النفسية وقيمها، بما يعنيه ذلك من أهمية تنشيط دور المستشفيات ومراكز الصحة النفسية ومراكز اللياقة الداعمة للسلوك النفسي في تقديم برامج وطنية متكاملة عبر التطبيقات الذكية والبرمجيات مفتوحة المصدر والتقنيات المتقدمة وتقنيات الذكاء الاصطناعي في إعادة هندسة السلوك النفسي بطريقة أكثر ابتكارية وإنسانية تحفظ أسرار هذه الحالات وتحافظ على مستويات نجاحها وتقدمها.