د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
فرضت جائحة كوفيد 19 تحولات واسعة في النسق القيمي والاجتماعي، وإحداث تغييرات جذرية في العديد من الأنماط التواصلية، والعلاقات الأسرية والمجتمعية، والعادات الحياتية، والأساليب المعيشية، والتعاملات اليومية الحاصلة بين أبناء المجتمع، كان لها أثرها في إعادة هيكلة القيم في المجتمع، سواء من حيث ترسيخ قيم حياتية جديدة ، وإعادة ترتيب أولوية التعامل مع بعض القيم والعادات المجتمعية، أو تصحيح بعض العادات الاجتماعية التي كانت تمارس باسم القيم، وضبط وتقنين بعض العادات بما يتناغم مع طبيعة الحالة ويمنع ضررها، ويؤسس خلالها مساحة أمان لإنتاج القوة ورسم الأمل، وتحقيق فرص التضامن والوحدة بين أبناء المجتمع ، والانطلاقة من مشتركات القيم في التعاطي مع الظروف والمتغيرات الحاصلة في الواقع العالمي الجديد، كما أسست لقيم عالمية مشتركة بين بني البشر، أصبحت فيها القيم محطة التقاء وحوار عالمي لتعزيز روح الإنسانية والأخلاق والتعاون والتوافقية في الوقوف أمام معطيات هذه الجائحة والحد من تأثيرها، وضمان تحقيق التزام عالمي في التقيد بالإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية المشتركة بين دول العالم، أو الاستراتيجيات الداخلية التي انتهجتها الدول في مواجهة الجائحة.

ومن منطلق دور التعليم في الحفاظ على الهوية الوطنية كما حددتها المادة(16) من النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني ( 6/2021)، ومسؤولية التعليم في البناء القيمي والأخلاقي للناشئة، والحد من فجوة القيم الناتجة عن فرضية تأثير طريقة تدريس القيم في المناهج والأنشطة وغيرها كأحد الأسباب التي أدت إلى تعميق النظرة السلبية للقيم، وفجوة الاتصال بالواقع وقدرتها إلى النفاذ في أخلاق الانسان وشخصيته ، والتي افقدتها روح الاستشعار بقيمتها والاستئناس والاطمئنان بها ، بما يعنيه ذلك من أهمية إحداث نقلة نوعية في طريقة تدريس القيم والتآلفية معها، وصناعة الظروف المواتية لها في بيئة التعليم، وأن تؤسس المرحلة القادمة لما بعد كوفيد 19، لنظم عمل جديدة تضع سياسات التعليم وخططه وبرامجه ومناهجه وأنشطته أمام مسؤولية إعادة تدريس القيم بطريقة تضمن قدرتها على تأسيس التوازن في حياة الانسان، وترقية نوازع الخيرية والصلاح والقدوة فيه، وترسيخ السلوك المهني المتقن الذي يضمن استدامة توظيف المتعلم لهذه القيم كموجات لحياته اليومية، تحفظه من الزلل، وتقيه من الانحراف، وتدفع عنه المخاطر والاوبئة ، وتعزز فيه روح المسؤولية في التعاطي مع الازمات والجوائح والظروف وعبر انتاج اخلاق الأزمات والقيم النوعية في إدارتها، وتفهم الظروف والمعطيات الناتجة عنها، وتوفير حصانة نفسية وفكريه وأخلاقية داعمة تضمن مساحة أكبر من الاطمئنان والأمان الذي يتحقق للفرد وهو يضع القيم أمام ناظريه، وبوصلة له في توجيه ممارساته وتفكيره وأحكامه وتشخيصه للواقع .
وبالتالي إنتاج إنسان قادر على أن يصنع ذاته، ويبني قدراته، ويؤسس مهاراته، ويتفاعل مع هذا الكون بكل معطياته، وأن يجسدها في أخلاقه، وتعاملاته، وعلاقاته، وسماته وصفاته ، وانطلاقته للحياة وقراءته للظروف والعيش في عوالمها المتعددة ومتغيراتها المستمرة وتراكماتها الكبيرة، بما ينعكس على سلوكه العام، وبالتالي كيف يؤصل التعليم القيم عبر مكونات بيئة التعليم والتعلم وعناصرها المختلفة كالمعلم والمنهج والأنشطة وغيرها ، وكيف يقرّبها من فهم المتعلمين، وما هي قراءة المتعلم إلى المنظومة القيمية بما تحويه من مبادئ وأخلاقيات وعادات أصلية ، وكيف يجسّد القيم في حياة المتعلمين كنماذج حياتية وقدوات، باعتبارها اكسجين الحياة، فيثبت حاجة الانسان إليها في عالم مضطرب ، ويقنعهم بالأدلة التطبيقية والنماذج العملية بأن القيم هي الحياة، وتجسيد عملي لتفاصيلها في اعتدالها وواقعيتها وجمالياتها واستقامتها ، ودورها لا يقف عند هذا الحد بل في قدرتها على انتشال الانسان من حالة الفوضى الفكري والأنانية الذاتية، وقسوة الشعور، ووحشية التصرف، وعقم التفكير، ونرجسية الفكر أو حالة عدم وضوح الأهداف والغايات والتوجهات، والقلق والخوف على الرزق والوظيفة والمستقبل.
إن القيم في إطار هذا المعنى، سمات ومبادئ واخلاقيات تشكل منظومة تكوينه الإنسان الفكري والنفسي والاجتماعي والأخلاقي ليكون رجلا صالحا في المجتمع، وتحويلة إلى كائن اجتماعي منتج فاعل في محيطه ، متفاعل متعايش مع الواقع، يصنع القوة، وينتج الوعي، ويبني المسؤولية، ويعيش مرحلة التسامح والحياة والوقاية والاطمئنان في مواجهة الانكسارات والظروف والتحولات والتغيرات التي تحدث له، فتؤسس فيه قيم السلام الداخلي، والرضا النفسي، وحب الآخرين، والصدقة، والبر، والحنان والعطف، ومراعاة المشاعر، والصبر والاناة وغيرها، مستفيدة من استراتيجيات التدريس القائمة على محاكاة للواقع، والنماذج الإيجابية، والقدوات، وحسن التصرف في المواقف، ووجود المشكلة والحل القيمي لها في مضمون القيم، والنماذج العملية، وترسيخ قيم الخيرية في حياة الانسان، والبر والإحسان، والتطوع، ومساعدة الاخرين، بحيث تصبح المدارس والجامعات ومؤسسات التعليم الأخرى بيئات لتدريس القيم، ونماذج ترقية الأخلاق، وتجريبها في المواقف ، واختبارها في الظروف والشدائد، وانطلاقة القيم من الفصل الدراسي وبيئة المدرسة وثقافة التعليم والتعلم، لتظهر في أسلوب الخطاب التعليمي مع المعلم والإدارة، وبين الطلبة، وفي المحافظة على الأدوات المدرسية، وحماية السلوك الإيجابي، وترقيه الذوق، وتجريب القيم في مواقف الحياة ، وتصرفات المتعلمين، وتعاملهم مع مشكلات الواقع، لتصبح القيم حلول استراتيجية وأدوات عملية في مواجهة الظروف والوقوف على التحديات، والتثمير في الفرص والقدرات، وانتزاع صفة الذاتية والأنانية والكراهية والتنمر والحقد والحسد والمنافسة السلبية والاعتداء على الغير، من نفوس المتعلمين، وبالتالي أن تعاد عملية تقييم القيم وأدوات تصحيحها في الأنشطة التعليمية ، وربط القيم بمكونات حياة الانسان وحاجته الى القيم، فالإنسان بلا قيم تحميه وتحافظ عليه وترقى به وتصوونه كالجسد بلا روح ، وربط ما يندرج ضمن هذه القيم من عادات وتقاليد ومبادئ وعلاقات اصيلة في المجتمع، لتقرأ في إطار منظومة أخلاقية إنسانية اجتماعية عالمية قادرة على صناعة الإنسان.
من هنا تصبح القيم أول أعمدة الإصلاح التي يجب على التعليم أن يستحضرها في أجندته القادمة لما بعد جائحة كوفيد 19 ، وعبر تبني سياسات أكثر نضجا ومهنيا وعمقا وجدية في بناء المنظومة القيمية للمتعلمين، وإزالة الضبابية والمفاهيم المغلوطة حول القيم وأهدافها وغاياتها والفهم السائد نحوها في كونها تتعدي على الحياة الشخصية، وتقف في وجه الحريات، وتعادي رغبات الانسان وطموحاته، لتبقى القيم حاضنة الحياة ، في أمان وسلام واطمئنان، ومخرج بلدان العالم وشعوبه من غوغائيتها، وحالة السقوط والانتكاسة التي تواجهها، والنكبات والصدمات التي تعيشها، ومن كل الأوبئة والتحديات التي تعصف بها.