د. أحلام بنت حمود الجهورية- باحثة وكاتبة في التاريخ
بعض الوثائق هي أشبه بلحظة زمنية محنطة يمر من خلالها شريط الحياة، ترى من خلالها حركة الناس ونشاطهم وهمومهم الصغيرة والكبيرة، والكثير من المشاعر والأفكار مما يمكن أن تبعثه في داخلك وثيقة. وهو ما وجدته في وثيقة حملت الرقم 1156 في موسوعة عُمان الوثائق السرية[1] في مجلها الخامس، تحت عنوان: “مذكرة من القنصل البريطاني في مسقط للبعثة البريطانية في البحرين حول زيارة زوجته لبعض النساء في مسقط (“(FO 371/156821، مؤرخة في 6 يوليو 1961م، والزيارة كانت في مارس 1961م.
هذه الوثيقة بمثابة فيلم وثائقي قصير يختزل لك صورة من صور الحياة في مسقط في الستينيات من القرن العشرين. تقع الوثيقة في سبع صفحات، الصفحة الأولى ونصف الصفحة الثانية منها عبارة عن تقرير عام عن الزيارة مُرسل من القنصل البريطاني ج. ف. أس. فيلبس (J.F.S.Philips). ومن منتصف الصفحة الثانية وحتى الصفحة السابعة (ص137-143)[2] من الوثيقة عبارة عن تقرير من إنشاء زوجة القنصل البريطاني تحت عنوان فرعي: “زيارة النساء في مسقط”، على شكل فقرات مرقمة من 1 إلى 28. والوثيقة مصنفة “سري”. ويمكن تحديد إطارها الزمني 6 يوليو 1961م، في عهد السلطان سعيد بن تيمور بن فيصل (1350-1390هـ/ 1932-1970م)[3].
ومضمون الوثيقة ينصب في وصف زيارة قامت بها زوجة القنصل البريطاني برفقة الممرضة جانيت بورسما[4]-الشهيرة لدى العُمانيين بخاتون نعيمة- من البعثة الطبية الأمريكية لثلاث سيدات من الأسرة الحاكمة، السيدة نوار بنت ملك بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان آل سعيد. والسيدة حذام بنت حمد بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان آل سعيد. وهما ابنتا عم السلطان سعيد بن تيمور سلطان مسقط وعُمان آنذاك. والسيدة بردى بنت فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان آل سعيد، وهي عمة السلطان سعيد بن تيمور. وفيما يلي وصف حيثيات الزيارة كما جاء في التقرير:
أولًا: زيارة السيدة نوار بنت ملك بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان آل سعيد.
كما أشرنا آنفا، تُقدم الوثيقة وصفا دقيقا لزيارة قامت بها زوجة القنصل البريطاني بمعية الممرضة جانيت بورسما من البعثة الطبية الأمريكية متنقلة بين منازل ثلاث سيدات من الأسرة الحاكمة، والبداية مع السيدة نوار التي تسكن في منزل والدها السيد ملك، تقول زوجة القنصل البريطاني: “ذهبنا أولا إلى منزل السيد ملك وهو متزوج من ثلاث أو أربع سيدات ولديه ابنة واحدة هي بيبي[5] نوار، وهو يحبها كثيرا، ولها أولوية على كل زوجاته بما في ذلك أمها”. وتكمل: “دخلنا أولا إلى حجرة انتظار صغيرة وتم إخبار بيبي نوار للنزول من الطابق الأعلى لاستقبالنا وتحيتنا ثم قامت بإدخالنا إلى البهو الرئيسي في المنزل حيث قدمتنا إلى والدتها”.
تصف زوجة القنصل البريطاني الغرفة التي تم فيها اللقاء بالسيدة نوار: “للغرفة نوافذ عديدة، لها نوافذ بارزة وعلى شكل أقواس تركية من منتصف الحائط وحتى الجزء الأعلى من جدران الغرفة قريبًا من السقف. وهي تسمح بإلقاء نظرة ضيقة ولكن جميلة إلى أنحاء المدينة المختلفة في الأسفل. ويوجد طاولة مكتب لها 3 أدراج وكرسيان وقليل من الكتب المتناثرة فوق المكتب وجهاز تليفون تم توصيله خلف طاولة المكتب وراديو مغطى بقطعة يعلوها الغبار ومروحة هواء”. واللافت في هذا الوصف الدقيق وجود جهاز الهاتف والراديو، ولم يكن يمتلك جهاز التلفون إلا قلة ممن أذن لهم السلطان سعيد بن تيمور، وكان والد السيدة نوار أحدهم.
وتشير زوجة القنصل في وصف زيارتها إلى الضيافة التي تم تقديمها لها، “فاكهة الأناناس وبعض الحلوى والبسكويت المصنوعتين في البيت”. وتتابع زوجة القنصل وصف زيارتها للسيدة نوار، فوصف جمالها وأناقتها وشخصيتها، كما ذكرت أنها تبلغ من العمر 25 عامًا، وتضيف: “تتمتع بشخصية ذكية ومرحة ودقيقة الملاحظة”، كما ذكرت رغبة السيدة نوار في تعلم اللغة الإنجليزية: “كانت لدى بيبي نوار رغبة جامحة في تعلم اللغة الإنجليزية وسألتني عن مواعيد بث البرامج التعليمية بخصوص اللغة الإنكليزية على إذاعة بي بي سي وعن أطوال الموجة التي يبث عليها البرنامج. وأخبرتها أنني سوف أستفسر عن ذلك وأخبرها في أقرب فرصة ممكنة. وعندما حانت لحظة مغادرتنا ذكرتني مرة أخرى بوعدي”.
وأشارت زوجة القنصل البريطاني إلى أنه تم تقديمها للسيدة نوار: “تم تقديمي لها بأنني الدكتورة ماري، وكان هذا مصدر دهشة كبيرة لها ممزوجة بالفرح لأن اسمي قد ذكر أمامها من قبل الدكتور ويل توماس قبل أيام قليلة فقط. وكانت بيبي نوار قد تلقت بعض المعالجة الطبية في مستشفى مسقط في العام الماضي وكانت تعتقد أنها تعرفت على كل العاملين الأجانب في الحقل الطبي وأصرت على أنه لا وجود لما تسمى الدكتورة ماري، والآن تقابلني وجها لوجه وكان هذا مصدر فرح كبير لها وكررت ذلك مرتين أو ثلاثة أثناء هذه الزيارة”.
ثانياً: زيارة السيدة حذام بنت حمد بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان آل سعيد.
ثانياً: زيارة
السيدة حذام بنت حمد بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان آل سعيد.
تستكمل زوجة القنصل البريطاني وصف زيارتها، فتكمل: “ذهبنا بعد ذلك لزيارة بيبي حذام وأبوها هو شقيق السيد ملك وتعيش مع أخيها السيد سلطان وأرامل أبيها وهي أيضا لها مكانة كبيرة بين كل النساء الموجودات في المنزل وهي في نفس عمر بيبي نوار وغير متزوجة أيضا”. وتصف استقبال السيدة حذام لها: “استقبلتنا بيبي حذام عند المدخل وأخذتنا إلى الطابق الأعلى”. وتستطرد زوجة القنصل البريطاني مقارنةً بين السيدة حذام والسيدة نوار: “لم تكن في نفس حيوية وجمال بيبي نوار ولكنها أكثر أرستقراطية منها نوعا ما”.
وعلى نحو ما وصفت منزل السيدة نوار تصف منزل السيدة حذام: “كانت غرفتها مؤثثة بأثاث على الطراز الغربي مع بعض مقاعد الجلوس الوثيرة مكسوة بألوان زاهية ومنسقة تدل على ذوق رفيع وتتناثر عليها بعض الوسائد الصلبة. وعلى الأرض فرشت سجادات إيرانية جميلة جدا. وعلى الطاولة المكتبية يوجد قلم مفتوح حديث الشكل وتليفون أخضر اللون جميل الشكل وهنالك لوحتان كبيرتان للملكة ومعها دوق أدنبرة”.
وأشارت زوجة القنصل البريطاني إلى وجود تلفون أيضا عند السيدة حذام قائلة: “تكلمت بيبي حذام عن الفائدة العظيمة لجهاز التليفون فهو يمكنها من التواصل مع صديقاتها خلال ساعات النهار”. كما أشارت إلى رغبة السيدة حذام في تعلم اللغة الإنكليزية: “وأبدت بيبي حذام أيضا رغبة قوية في تعلم اللغة الإنكليزية وكانت قد تلفظت ببعض العبارات باللغة الإنكليزية مثل صباح الخير وكيف أحوالك”. كما لفتت زوجة القنصل في تقريرها عن الزيارة إلى مشاركة السيد سلطان الحديث معهنَّ قائلة: “بينما كانت تقدم لنا الحلوى والقهوة جاء السيد سلطان وجلس معنا وعلى عكس توقعاتنا كان ذلك بصورة ودية ومرحبة، واستمرت بيبي حذام في حديثها بدون وجل أو خوف من حضور أخيها وجلوسه معنا في نفس المكان”.
ثالثا: زيارة السيدة بردى بنت فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان آل سعيد.
بعد مغادرة منزل السيدة حذام: “بعد ذلك لبينا الدعوة لزيارة بيبي بردى وهي الأخت الشقيقة-غير المتزوجة- للسيد شهاب والسيد عباس والسيد ملك”، وأشارت زوجة القنصل البريطاني إلى أن السيد ملك هو الشقيق المفضل للسيدة بردى: “وبدا أن السيد ملك هو الشقيق المفضل لها ولكنه يقيم الآن في السيب حيث مزرعته الكبيرة التي يعمل على تطويرها وتركيب مضخة ماء جديدة فيها”.
وبالعودة إلى حيثيات الزيارة، تصف زوجة القنصل البريطاني منزل السيدة بردى: “تعيش بيبي بردى في فيلا صغيرة مكونة-على ما أعتقد- من حجرتي نوم فقط ولها أسوار خارجية عالية وقابلتنا عند البوابة الخارجية بنفسها”. وتصف استقبالها لهما-زوجة القنصل البريطاني والآنسة جانيت-: “استقبلتنا ورحبت بنا في غرفة استقبال مظلمة بعض الشي وبها نوافذ تركية الطراز كالعادة وهنالك وسائد على أرضية الغرفة و4 أسرة ضخمة مصنوعة من خشب المهوجني الصلب وهنالك أرفف على الجدران مليئة بالأنتيكات والمنحوتات الخشبية”.
ووصفت زوجة القنصل البريطاني السيدة بردى: “… ولها حضور وذكاء ملحوظان وكلامها ممتع إلى حد ما”، كما أوضحت أن السيدة بردى أبدت رغبتها في العمل في المستشفى: “أخبرت جانيت أنها تود العمل في المستشفى، ولو أنها تعرف أنه من الخطأ عدم السماح لها بذلك باعتبار أن العمل لا يؤذي ولا يضير أحدا، وقالت إن الأوضاع لن تستمر على نفس الحالة لوقت طويل وإن الظروف تتغير بصورة وإيقاع أسرع وأن النساء سوف يبتدئن في الخروج وعمل ما يردن عمله قريبا”. وقبل المغادرة قامت السيدة بردى بعرض آخر ما اقتنته: “وبينما كنا نهم بالمغادرة جعلتنا نرى آخر ما اقتنته في الصالة الخارجية، كان هنالك جهاز طبخ رصاصي اللون له عينان وفرن يبدو أنيقا”.
وختمت زوجة القنصل البريطاني تقرير زيارتها: “كنت محظوظة لوجودي مع جانيت في هذه الزيارات فهي على علاقة جيدة مع هؤلاء النسوة وتعرف صديقاتهن أيضا وفي نفس الوقت لها معرفة واسعة باللغة العربية لذا كانت المؤانسة مفتوحة وممتعة معهن”. وهذا الشعور بالحظ والغبطة بهذه الزيارة سطرته زوجة القنصل البريطاني في أول سطر في تقريرها، فقالت: “كنت محظوظة بما فيه الكفاية بأن دعتني الآنسة جانيت بورسما من البعثة الطبية الأمريكية لمرافقتها عدة مرات عندما وجهت لها دعوات شخصية لمقابلة كثير من السيدات في مسقط”.
انتهي تقرير زيارة زوجة القنصل البريطاني الذي هو أشبه بفيلم قصير يجسد يوميات في العاصمة مسقط في ستينيات القرن العشرين، وأجدني في نهاية التقرير أشاطر زوجة القنصل البريطاني شعورها بالحظ لقراءة هذه الوثيقة التي حملت المختلف وأوضحت جانبًا من جوانب الحياة في مسقط.
صور الوثيقة:
صور الوثيقة:
[1] الحارثي، محمد بن عبد الله، إعداد وترجمة. موسوعة عُمان الوثائق السرية. مج5، د.ط، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007م.
موسوعة عُمان الوثائق السرية
[2] المصدر نفسه، مج5، ص137-143.
[3]السلطان سعيد بن تيمور بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي، أكبر أبناء السلطان تيمور بن فيصل، وُلد في مسقط 18 شعبان 1328هـ/ 13 أغسطس 1910م. والدته السيدة فاطمة بنت علي بن سالم بن ثويني بن سعيد بن سلطان البوسعيدية. له أربعة إخوة: ماجد وطارق وفهر وشبيب، وأخت واحدة: بثينة.
[4] الممرضة جانيت بورسما: ولدت سنة 1918م في شيكاغوا بالولايات المتحدة الأمريكية من أبويين هولنديين هاجرا إلى الولايات المتحدة في عام 1905م، التحقت بالعمل في مستشفى الإرسالية الأمريكية بمسقط في عام 1951م، تميزت تجربتها في عمان بامتدادها إلى ما بعد عام 1970م، حيث عملت في مستشفى صور من عام 1975م وحتى تقاعدها في عام 1986م وعادت إلى الولايات المتحدة الأمريكية. عادت مرة أخرى إلى عُمان في زيارة خاصة في نوفمبر 1987م، وخلال زيارتها حضرت افتتاح المستشفى السلطاني في بوشر وصافحت جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه. وثقت سيرتها الذاتية في كتاب بعنوان: “النعمة الإلهية في الخليج”. لمزيد من التفاصيل حولها وحول دور الإرسالية الأمريكية في عُمان. يُنظر: الحسيني، سليمان بن سالم. الحملات التنصيرية إلى عُمان والعلاقة المعاصرة بين النصرانية والإسلام. ط1، دار الحكمة، لندن: 2008م.
الحملات التنصيرية إلى عُمان والعلاقة المعاصرة بين النصرانية والإسلام
[5] تشير زوجة القنصل في بداية الزيارة: “لا يطلق على أعضاء الأسرة المالكة من النساء لقب سيدة بل يتم استعمال لقب بيبي (وهو مستعمل في زنجبار أيضاً)”.