المكرّم السيّد نوح بن محمد بن أحمد البوسعيدي- رئيس الجمعية التاريخية العمانية

فارقتنا و هي تبكي. ونذكرها و نحن نبكي. كانت رمزا لمجد عمان الخالد، فشاخت ككل الكائنات وعرّاها تقلب الليل والنهار فلم تستطع المقاومة فأنهارت إما بذاتها أو لضرورات الحداثة و التطوير.
اثنان نذكرهما بما يستوجب من الأدب ، وأخريان نشير لهما بشيء من العتب.
ما وجب ذكرهما بأدب هما مبنى قصر العلم العامر التاريخي، بُني عام ١٧٧٢ م على يد السيد سلطان بن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي وظل مذ ذاك الحين مقرا رسميا للحكم، تم هدمه عام ١٩٧٢م ليفسح المجال أمام المبنى الجديد الشامخ .

من الناحية الهندسية والعملية ربما كانت هناك ضرورات لهدم المبني القديم لكن ذلك الصرح المهيب لا يزال مثار حنين الكثيرين لقيمته التاريخية الكبيرة و بما حواه من مقتنيات ووثائق قيّمة ففي كل ركن فيه كان هناك عبق لمجد عمان.
ومع هدمه ذهبت أيضا المباني القديمة المجاورة له وأغلبها مكاتب لوكالات تجارية ومخازن حوَت وثائق مهمة شاهدة على مجد عمان.
المبنى الثاني الذي يستوجب علينا أيضا ذكره بالكثير من الأدب هو ” بيت السركال ” بطوي السركال في السيب و الذي أقيم مكانه قصر السيب العامر. هذا البيت الشامخ كان بمثابة المقر الصيفي للسلطان تيمور و السلطان سعيد بن تيمور رحمة الله عليهما. “الطّوي” أو المزرعة التي تحتضنه كانت نموذجية من حيث ما تحويه من مزروعات وخاصة شجرة ” الامبا” الفاخر أو المانجو التي جُلبت خصيصا من الهند وتعد نادرة في السيب.
حسب ما يتردد في المروي أن الطّوي كانت ملكا للسيد أحمد بن محمد الغشّام رئيس الوزراء في عهد السلطان تيمور و بعده آلت للسلطان تيمور. البيت عُرف ببيت السركال . وبما أن السلطان سعيد بن تيمور رحمة الله عليه انتقل إلى ظفار في السنوات الأخيرة فإن البيت أقام فيه أحد المسؤولين الانجليز و يعرف في السيب حينئذ بـ ” السياسي”. البيت هُدم في أوائل السبيعنات و أقيم مكانه قصر السيب العامر وتمدد المكان ليشمل أيضا حلة البرج من الشرق وطوي السرورية من الشمال و الخضراء من الجنوب. كلتا المزرعتين عمّرهما السيد محمد بن حمد بن هلال البوسعيدي.
أمّا الصرحان اللذان نطلب العذر لذكرهما بشيء من العتب أولهما ” حصن دما” في منطقة خريّس الحبوس عند جسر الخوض الحالي. كان يقع هناك حصن دما الشهير الذي يُعّد أحد مواقع الرباط لدى العمانيين (دفاعي). حسب بعض الإشارات التاريخية أن الحصن كان بمثابة القاعدة البحرية لعمان، و الناظر لوادي اللوامي سيدرك أن الماء من الممكن أن يصل للحصن بسهولة. و مما يُذكر أن الإمام غسان بن عبدالله الخروصي ( بويع سنة ١٩٢هـ ) سيّر من الحصن حملات بحرية ضد القراصنة عام ٢٠١ هـ ، كما شهد الحصن المعركة الشهيرة بين العمانيين و محمد بن بور (الوالي العباسي في البحرين) ٢٨٠هـ / ٨٩٣ م . كما أشير إلى أن الحصن شهد أيضا تدشين حملات ضد الغزو البرتغالي. بقيت أطلال الحصن الشامخ حتى بداية السبعينات وبعدها تم هدمه بعد أن أصبحت قطعة الأرض المقامة عليه ملكية خاصة.
الصرح الثاني هو مستشفى طومس في مطرح والذي بنته الإرسالية الأمريكية عام ١٩٠٩م و كان أول مستشفى حديث في عمان، واشتهر صيته في منطقة الخليج. اقترن اسمه باسم الطبيب المشرف عليه Sharon J Thomas و الذي كان يعمل في البحرين. رغم ما أشير إلى أن الطبيب طوماس لم يكن متحمسا لقرار نقله لعمان لكن بمجرد أن خالط العمانيين أحبهم و أحبوه. فكم من العيون أنقذها من التراخوما ، وكم من فتاة أدركها بأبرة بنيسلين بعدما أعيتها المغابير ، وكم من فتى كادت أن تقضي عليه حروق الوسم عالجه بالمرهم. و لا يذكر الفضل لأهل الفضل إلا أولو الفضل.بعد النهضة المباركة أصبح مستشفى الرحمة ، لكن في وقت لاحق انتقل إلى رحمة الله وأُزيل المبنى التاريخي كليا.

أما الصرح الثالث فلا تزال أسباب هدمه مستعصية على الفهم ، حيث ذات صباح باكر بينما كانت الغربان تحوم في السماء تترصد وصول الصيادين على شاطئ السيب لتنال رزق يومها ، فوجئ أهل السيب بالجرافات تنقض على حصن السيب الوديع الذي طالما أبهج الأنظار. الحصن شهد اتفاقية السيب الشهيرة عام ١٩٢٠م وهدم في الثمانينات. حتى اليوم يثير هدمه الكثير من التساؤل!
لو قدّر لهذه الصروح أن تبقى لكانت اليوم مزارات سياحية تدّر دخلا و تُعيل أُسرا و تحكي مجدا.
لا يزال غبارها يئن شوقا ، وينادي أنّ من كان له جدار يريد أن ينقض فليقيمه، فلعل تحته كنزٌ ذخره له أبوه الصالح.