أثير- موسى الفرعي
المثقف هو الإنسان القادر على أن يجعل مشاكل الآخرين هموما شخصية له لأنه ضمير عصره، من هذه المقولة العظيمة للكاتب المصري جمال حمدان، وانطلاقا من قوة العلاقة بين عمان ومصر بصفتها ضميرا ومركزا مهما للكرامة العربية وقلبا دفاقا بالأصالة والبهاء، يمكن أن تتجلى مساحات للحديث عن عمان الجغرافيا التي تعد مسرحا للأحداث والقائد الإنسان المثقف المسكون بهموم الآخرين، فقد لعبت عمان دورا أساسيا ومحوريا في تاريخها القديم والحديث، وليس أدل على ذلك أكثر من الوساطات التي حملتها في حقائبها الدبلوماسية لتكون إقليدا لأهم القضايا السياسية حينا، والإنسانية الخالصة في أحايين أخرى، فالمواقف العمانية التي تهدف إلى السلام والاستقرار دون تمييز أو استثناء أهلّها لقيادات الكثير من الوساطات وأكسبها ثقة العالم بالسياسة والحكمة العمانية فكانت سببا لحل إشكالات سياسية كثيرة يتصدرها وقوفها في صف ضمير الأمة العربية “مصر” بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد ومقاطعة مصر من قبل الدول العربية باستثناء عمان، والدور الحيوي الذي لعبته لاستمرار الحوار بين مصر وإيران لحظة قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والإفراج عن الصيادين والأسرى المصريين الذين كانت إيران قد احتجزتهم إبان الحرب العراقية، وحراكها أيضا فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، ولعبت دورا رئيسا ومهما لتهدئة الوضع بين واشنطن وإيران، إضافة إلى ذلك أحداث اليمن التي رفضت عمان أن تكون سببا في قطرة دم تراق فيه، بل قدمت مبادرة تستهدف إيقاف الحرب وإنهاء حالة الانغلاق السياسي، وموقفها من ملف القضية السورية، وذلك كله دون أي بهرج إعلامي أو مطامع سياسية أو مادية، فقد كانت الدوافع الإنسانية هي المحرك الرئيس وحلم فرض ثقافة السلام وحفظ التوازن في المنطقة هو الهدف، فلا يمكن أن تتم عملية البناء في ظل الفوضى، ولا يمكن أن تعلو الإنسانية في خضم الدم الهادر الذي يمنع تنفس الإنسان، وقد تجلى هذا الأمر في آراء وأقوال الكثير من القادة والدبلوماسيين لحظة تأبين جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه، وأكده خطاب السلطان هيثم بن طارق أبقاه الله لحظة تنصيبه سلطانا للبلاد حيث أكد على ترسم خطى القائد الراحل، والذي أكد أيضا على أن نهضة عمان نهضة متجددة متطلعة للمستقبل ولكن بذات الثوابت التي آمنت بها وهي الحياد والجنوح للسلم وعدم التدخل في شؤون الغير احتراما لقرارات الدول السيادية وعدم قبول تدخل الآخرين في الشؤون الداخلية، كما أكدت التجربة السياسية مرورا بجميع ما ذكرناه ووصولا إلى الأزمة الخليجية أن القرار العماني هو الانحياز الخالص للإنسانية والأكثر نضجا، وأن المبادئ العمانية مبادئ ثابتة لا تتأثر برياح المتغيرات السياسية فالقلب الذكي والرؤية الواضحة هي الأساس الذي تنطلق منه، والإنسانية هي الجوهر الذي تؤمن به، وها هو الدور الإقليمي العماني يواصل مساعيه مع عهد يتجدد، الأمر الذي بدأت تتشكل ملامحه وتفاصيله منذ الخطاب الأول للسلطان هيثم، إلا أن معطيات الواقع تؤكد صلابة موقف السلطنة وقدرتها على الاستمرار على منهج الحياد الإيجابي رغم الضغوطات المصاحبة للعهد الجديد والتي من شأنها أن تدفع السياسة إلى ضفة الانحياز وهو الأمر الذي قد يبدو منطقيا حيث يكون الانحياز للدول التي تحتاجها عمان في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الحديثة غير أن هذا الأمر لم يهز الموقف العماني وما زالت السياسة العمانية تسير بثوابتها، وكما لعبت عمان دور الوساطة الناعمة في الكثير من الملفات، فهي قادرة على استئناف هذا الدور، وليس أدل على ذلك أكثر من أن تكون عمان الوجهة الأولى لمبعوث الأمم المتحدة في اليمن في ظل الصراعات المركبة وتعدد الجبهات والمصالح، وأن تكون عمان طاولة الحوار الجامعة للأطراف المتنازعة، ودرورها في تهدئة الوضع بن واشطن وإيران وبين العلاقات الإيرانية في المنطقة أيضا، فالأمر ليس منوطا بشخص بل بتاريخ ممتد وفريد من الحكمة وحسن الرؤية وقراءة واقعية لمعطيات الأحداث، وهذه هي مفاتيح المساحات الخارجية التي تتحرك فيها السلطنة، فالمؤسسات العمانية تملك وجودا سياسيا أعمق، وتبلورت علاقتها مع الأمم الكبيرة منذ زمن بعيد، وأما الداخل العماني فإنه إرث من الأمن والطمأنينة والاستقرار، شعب آمن بالأفكار والقيم التي كبرت مع أبناء هذه الأرض منذ سبعينيات القرن المنصرم، مما جعل العمانيين يعضون عليها بالنواجذ ويتعاملون معها كجزء رئيس في بنائهم الإنساني، ويخافون عليها من كل ما يمكن أن يناهضها، لذا فإن الرهان الجديد للسلطنة يعتمد على أمرين أولهما هو ذات الأمر الذي ذكرناه وهو أن الأمر ليس منوطا بشخص بل يمثله ثقل عمان تاريخيا وجغرافيا وديموغرافيا، وهذا من الحقائق الثابتة مهما تعددت العصور، والثاني هو القاعدة المالية المعتمدة على النفط والذي يعد إنتاجه أقل من دول المنطقة، غير أن السلطان هيثم يتحرك وفق خط مدروس ومنطقي لإعادة بناء ثوابت لهذه القاعدة المادية وهو يسير في خط واضح، وبهذا تكون قد توفرت جميع الأسباب التي تجعل من عمان بلدا قادرا على ممارسة دوره الإقليمي ويسهم في نشر ثقافة السلام، وركيزة مهمة لحفظ توازن المنطقة.
* المقال منشور في جريدة الأهرام المصرية عدد يوم السبت 18 سبتمبر 2021م