د. رجب بن علي العويسي
خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
سؤال محيّر، ما زال يبحث عن إجابة مقنعة، يشعر خلالها الطالب بأن في تعلمه قيمه، أو أنه من يصنع مسار تعلمه، ويحدد بوصلة توجهه، أو أنه يمتلك مساحة من الإرادة والمرونة والقرار يتيحان له أن يتعلم ما يريد، ورغم أن الإجابة المطلقة عن ما يريده أبناءنا من التعليم غير متحققة، نظرا لاختلاف الاهتمامات، وتباين الاستعدادات والرغبات، والظروف والمتغيرات التي يعيشها كل فرد، والهواجس التي يعايشها، والأولويات التي يطمح إليها، إلا أن هناك مشتركات يتقارب حولها مجتمع الطلبة، ولعل مرتكزات التعليم الأربع، أتعلم لأعرف، وأتعلم لأعيش، وأتعلم لأعمل، وأتعلم لأتعايش، تمثل موجهات عامة يقترب حولها الطلب رغم اختلاف مداركهم وقدراتهم واستعداداتهم، إلا أنها لم تعد اليوم كافيه في رسم علامة فارقة في حياة الأجيال.
ذلك أن ما يعيشه مجتمع الطلبة اليوم من هواجس وتوجسات، ورغبات وطموحات، وتوجهات وتوقعات، وما يعايشون في واقع مليء بالسقطات والمطبات والمفارقات، في ظل طوابير المنتظرين للوظيفة، أو مفارقات الشروط والاعتبارات التي تضعها الجهات ذات الاختصاص في الالتحاق بها، يضع أمام التعليم مسؤوليات أخرى يجب أن يجعلها في قائمة مهامه نحو ضمان حق الأجيال في الحصول على تعليم جيد، أقلها أن يبني فيهم الإرادة نحو التغيير الذاتي، وقراءة الحياة بثوب متجدد متفائل، وتوظيف الفرص التي يعيشها الطلبة بكل متغيراتها وهم في سن الدراسة في رسم معالم نجاحهم للمستقبل، والتثمير في قدراتهم ومهاراتهم، وتوظيف أو إعادة إنتاج هذه الميزات التنافسية التي تعايشهم وتلتصق بهم في تقليل الفجوة التي بات يصنعها التعليم في مستقبل الأجيال، وحالة الخوف والأرق، والقلق والكدر، والضيق والتنمر، الذي بات يرافقهم رغم وجودهم على مقاعد الدراسة، كشاهد إثبات على أنه لم يستفد من شهادته الجامعية في الحصول على الوظيفة التي يحلم بها، كما أن التعليم بات يحملهم أثقالا فوق أثقالهم وتراكمات، في حجم مناهجه واتساع أيامه الدراسية (زمن التعلم)، وزيادة الخطة الدراسية، وطول اليوم الدراسي، ومع هذا الحجم من التراكمات إلا إنه يعاني من ضآلة نسبة ما يؤسسه فيه من المهارات والقدرات والاستعدادات التي تضمن له بناء حياته وإدارة مشروعه المستقبلي باحترافية ومهنية.
ومن جهة أخرى لم يترك له التعليم باب المشاركة مفتوحا في صناعة تعلمه، كما أن الخطة الدراسية واختيار المواد وتنوعها وعلاقتها بالأبعاد النفسية والفسيولوجية وغيرها -والذي اتجه إلى التعليم الاجتراري، كأكثر الأنماط التعليمية شيوعا وللأسف الشديد- لم تبنى على خبرات تراكمية واقعية وأحداث يعيشها الطالب، ليصدق ما يقال: من أن التعليم يعيش في برج آخر غير الذي يعيشه الطالب، وما زال التعليم لم يحاول الدخول في عمق الحدث أو يحاكي في مناهجه وأطروحاته وأنشطته، شخصية الطالب واهتماماته وأولوياته، وقناعاته، ويرفع من سقف توقعاته ليتجه به إلى استخدام قدراته العليا وتمكينه من استخدام التجريب والتطبيق وإعادة المحاولة وحل المشكلات وإنتاجها في الموقف التعليمي، ولم يحاول أن يضع الطالب في مواقف محاكاة وظروف استثنائية تصنع لتعلمه قيمه، لذلك لم يكن منظور التعليم والتعلم لدى الطالب يقترب من الشعور الداخلي الذي يؤسس فيه سلاما دائما وروحا محبة للإنجاز، فانفصل عن الواقع، وفصل المتعلم عن المجتمع، وأوجد فجوة كبيرة حول ما تعلمه، والتوقعات التي يخرج بها المتعلم من تعلمه، في إشارة هنا إلى نوع الأفكار والتجارب والخبرات والإستراتيجيات التي تصنع من تعلمه قيمه ذاتية، ولتعلمه محطة تحول ومراجعه، تستوي في ذلك مؤسسات التعليم المدرسي والجامعي على حد سواء.
ما يحصل في حقيقة الأمر، إنما هو وجود فاقد تعليمي يواجهه الطلبة، والذي بدأ يستشري تأثيره في كل مجالات حياة المتعلم الاجتماعية والفكرية والنفسية، اتجه خلاله التعليم إلى الشكليات، واصبح الانتهاء من الدروس أولوية لدى الكادر التعليمي بأكمله يفوق أولوية الفهم والتجربة والخبرة والمهارة التي اكتسبها الطلبة من هذه المواقف، لذلك نتج عن هذا الأمر الكثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية والفكرية، وفجوات عاطفية وأخلاقية بات يبحث عنها جيل المتعلمين في أحضان التقنية والمنصات التواصلية، في ظل حالة الانفصام الحاصلة بين التعليم والحياة، والتهميش والإقصاء الذي يعيشه الحوار التعليمي وقدرة الممارسة التعليمية على رسم ملامح مضيئة في حياة المتعلم تنقله من سطحية التفكير، وهامشية المواقف، إلى آفاق رحبة، ومنظورات حياتية أكثر اتساعا وعمقا مستفيدا من كل ما يطرح من موجهات وأفكار ونظريات ومبادئ في إنتاج واقعه والتفكير بمنظور أكثر ابتكارية وخروجا عن المألوف، لذلك لم يكن اتخاذ بعض أولياء الأمور لقرار منع إعطاء أبنائهم الهواتف النقالة أو الآيباد أو غيرها سهلا، وكان الكثير منهم يعتقد أن العودة المباشرة إلى الصفوف ومقاعد الدراسة سوف يقلل من رغبتهم في الحصول على هذه الأجهزة، ويسدل الستار على حالة الصراع التي بات تعيشها الكثير من الأسر مع هذه الأجهزة وفك عقدة التصاق الأبناء بها- وأن المدارس بما تحويه من فرص إنتاج التفاعلات وإعادة التجديد فيها قادرة على احتواء الطلبة وإشباع وعائهم النفسي والفطري والعاطفي- لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
عليه، حان الوقت لحضور الطلبة في تحديد واختيار نمط تعلمهم، وبما يتناسب مع طموحاتهم وأفكارهم، ويجدد فيهم الأحلام والآمال العريضة، وأن يستفيد التعليم من ما أفصحت عنه جائحة كورونا (كوفيد19) من حقائق حول مستوى قدرته على معالجة الأزمات والجوائح، وحجم الفاقد التعليمي الحاصل من انفصال التعليم عن الحياة والواقع الاجتماعي للطالب، بما يضمن تقوية الفرص الموجهة نحو احتواء الطلبة، وتمكينهم من العيش في ظروف صعبة وواقع متجدد، ويعزز قدرته على الحوار والنقاش والنقد، والتعبير عن وجهة نظره، مع الصغير والكبير، إنها مرحلة للتعمق في استدراك ما يريده الطلبة من التعليم، وإعادة التنويع في مساراته، باعتبارها مدخلات مهمة للإجابة عن هذا التساؤل ولو بشكل يقترب قليلا من الطموح، فهل ستعيد مؤسسات التعليم إنتاج واقعها من جديد ليتناغم مع ما يريده الطلبة من التعليم، في ظل خطر الفاقد التعليمي الحاصل على مستقبل الأوطان وحياة الأجيال؟