د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع العماني والتراكمات المرتبطة بجائحة كورونا ( كوفيد19)، والإجراءات الاقتصادية المتخذة في سبيل تحقيق خطة التوازن المالي وتداعياتها المختلفة، واتساع انتشار الظواهر السلبية في المجتمع، الأمر الذي يستدعي ممارسة تأملية واعية من التعليم في الحد من التحديات الأمنية وضبطها وتقنين المتغيرات المؤثرة على الامن الاجتماعي، انطلاقا من الدور الاجتماعي الأمني للتعليم ووظيفته في ترسيخ المفاهيم والقيم والمبادئ الأمنية في حياة الفرد والمجتمع ، ذلك أن الغاية من التعليم هو الإعلاء من قيم الحياة المتوازنة وترقية مبادئ السلام وتعزيز أمن الإنسان واستقراره وسعادته وبناء برامج التنمية التي هدفها تهذيب نوازع النفس بما يعنيه ذلك من تحولات يشهدها قطاع التعليم تعمل على ضبط موارده الإنسان وترقيته باعتباره أساسها وصانعها، وهكذا الأمن لا يتحقق إلا في ظل وعي متحقق، وانضباط في السلوك، واستقامة في الفكر، وصحة في الجسم إذ بوجودها تكتمل الخصال وتتحقق الغايات، وبالتالي تصبح النظرة التكاملية بين المنظومتين التعليمية والأمنية استحقاقا وجوبيا لتجسيد عرى الترابط عبر عملية حراك وتفاعل تستهدف إحداث نقلة نوعية في ذات الإنسان وفكره وتصحيح توجهاته وتقويم ممارساته، وبناء إطار عام لشخصيته وخصوصيته وتميزه عن غيره.
غير أن تحقيق تفاعل مجتمعي يحفظ توازن منظومة الأمن الاجتماعي والحد من تأثيرها على حياة المواطن واستقراره الفكري وضمان تحقق مستويات عليا من المهنية في الاستجابة لمتطلباته والتعامل مع قضاياه يستدعي من التعليم دورا محوريا في تعريف النشء بدوره في تحقيق الأمن ورفع درجة استحقاقات الأمان، وتعزيز الحس الأمني، والتأثير المتوقع على الفرد والمجتمع والتنمية، وتغيير بعض القناعات لديه حول بعض القضايا التي باتت تشكل هاجسه الأمني في قدرته على تبني حلول وإستراتيجيات تدعم عملية الحد منها ومعالجتها بما يضمن تكامل الجهود وتفاعل الأطر الموجهة نحو إدارة القضايا الاقتصادية والاجتماعية وتحليل أبعادها على أمن المجتمع بحيث يعمل التعليم ومن خلال عناصره وأدواته ومناهجه وآلياته إلى نقل تفاعله مع البعد الأمني باعتباره محطة تحول فياس الأثر الناتج عن جملة التفاعلات والتراكمات السلبية التي باتت تؤثر سلبا على هوية المجتمع ومستوى الحضور النوعي لقدراته وموارده البشرية، وعبر تجسيده في شخصية النشء وتفاعله مع ذات الإنسان وضميره وفكره وشخصيته وسلوكه ونمط حياته، ومسؤولياته نحو ذاته والآخر .
من هنا كان على التعليم أن يدرك هذه الحقيقة ويرسخ هذا المبدأ وأن يتفاعل مع منظومة الأمن في إطارها الإنساني الشامل المتكامل المتوازن الذي يستهدف أمن الإنسان الشامل في أبعاده الفكرية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية والقيمية والإنسانية والاقتصادية الإنسان واستقراره ويعمل على ضمان ذهابه لعمله وانتمائه لوطنه وحصوله على رزقه، فإن إسهام التعليم في الحد من التحديات الأمنية يضعه أمام مرحلة جادة من العمل نحو تشخيص المتغيرات والأسباب التي تقف خلف نشوء التحديات الأمنية أو وجود الثغرات الأمنية في واقع المجتمع خصوصًا ما يتعلق منها بمخرجات التعليم والباحثين عن عمل والمسرحين من القطاع الخاص، ومواءمة التعليم لسوق العمل، حيث باتت تشكل رقما صعبا يجب الوقوف عليه وتبني سياسات وخطط وبرامج تصنع منه قوة في التعاطي مع مستجدات الواقع الاجتماعي وتداعيات الإجراءات الاقتصادية المتخذة.
وبالتالي كيف يمكن للتعليم أن يعكس في إستراتيجية عمله رؤية أكثر شمولية وتفاعلية تتجه للإنسان بكل ظروفه ومتغيراته والعوامل المؤثرة فيه، وتتفاعل مع مرتكزات جوهرية في حياة المواطن في جانبها النفسي والاجتماعي والفكري والسلوكي والأخلاقي والغذائي والصحي والاجتماعي وغيرها، في ظل تعليم يحمل طموحات الأجيال ويقلب صفحات التأريخ ليضمن استيعابه لأحداثه وتناغمه مع مستجداته ، ويوفر للإنسان المناخ المناسب للعمل والإنتاج والتجريب، بل ويمنحه الفرصة والأمل من أجل غد مشرق بتغيير أفكاره السلبية وتعزيز مستوى الايجابية والتفاؤلية لديه في الحياة والعمل ، وهو ما يعني أن يتجه دور التعليم في هذا الإطار إلى بناء الإنسان الواعي المتجدد القادر على فهم ذاته والعالم من حوله والقادر على متابعة كل الجهود المبذولة والاعتراف بأنها من أجل راحته وسعادته ، بحيث يشعر من خلالها بقيمة الحب والفهم والاعتراف والاحترام والبناء، وتتجسد في حياته من خلال مستويات الوعي الأخلاقي والالتزام القيمي والسلوك النوعي والمبادرة الذاتية المعززة بالقناعة والرغبة والدافعية نحو بناء وطنه.
عليه فإن زيادة التحديات الأمنية وتنوع الظواهر السلبية الاجتماعية والنفسية والفكرية في المجتمع واتساع الجرائم وتعددها، ومشكلات الشباب المسرح عن عمله والباحث عن عمل وتكدس مخرجات التعليم العالي والعام وقلة الفرص المتاحة للشباب العماني في القطاع الخاص في ظل حالات التسريح التي باتت تقلل من قناعاته في قدرة هذا القطاع على احتوائه، بالإضافة إلى ما يظهر اليوم ما تحديات أمنية باتت تؤثر على الهوية والقيم والأخلاق وما تقدمه منصات التواصل الاجتماعي في ظل فراغ التشريعات من موائد مهيجة للشباب بما تتيحه له من ممارسات فكرية غير مسؤولة وردود سلبية باتت لا تميز الوطن عن غيره وتتعامل معه في إطار من المزاج الشخصي ، بالإضافة إلى الفاقد التعليمي ذاته وعمليات الهدر الحاصلة في المناهج وطرائق التدريس والممارسات التعليمية كل ذلك وغيره يبقي بظلاله على التعليم عبر إعادة هيكلته وتحسين مستوياته وتقييم نواتجه وعبر مراجعة واضحة تطال سياسات التعليم وخططه وبرامجه وأساليبه ومدخلاته وعملياته ومخرجاته والضوابط والتشريعات التي يعملها فيها ومن خلالها.
أخيرا تبقى قدرة التعليم في إعادة التوازنات الأمنية في المجتمع وترقية السلوك الأمني وتأصيل إنسانية الأمن في الممارسة اليومية للمجتمع، مرهونة بجملة من الموجهات التي يجب على التعليم أن يعمل عليها والتي تبدأ بإعادة هيكلة ذاته وصياغة المفاهيم التربوية والتعليمية المجسدة للأمن وتعميق العمل بها في الممارسة التعليمية، أو من خلال حزمة الإجراءات والإستراتيجيات والحوافز التي يعمل على ترقيتها في بيئات التعليم والتعلم وتصنعها القدوات التعليمية من معلمين وإداريين وأكاديميين، من خلال استخدام الأدوات الفاعلة والثقافة الرصينة والمنهج العلمي والتنوع في الأساليب التي تساعده على تحقيق تلك الأهداف والوصول إلى تلك الغايات، فإن تأصيل هذا الفكر وترقية السلوك الموجهة لتحقيق معادلة التوازن الأمني في المجتمعي والتزام معاييره وتجسيده التزام يمشي على الأرض تعكسه ممارسات المعلمين والأكاديميين والقائمين على إدارة التعليم وتعليم النشء وتأهليه وتدريبه وغيرهم سوف يكون الطريق لفهم متحقق لطبيعة التحول القادم والتداعيات الأمنية الناتجة عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي باتت تلقي بظلالها على حياة الفرد والمجتمع .