باريس- الطيّب ولد العروسي
ربطتني علاقة قديمة بالمفكّر الراحل جورج طرابيشي تعود لسنوات بعيدة، بحكم اقامتنا الباريسيّة، واستمرّت حتى آخر اتّصال أجريته معه، قبل أيّام من رحيله ، إذ سألته: هل تريد شيئا أستاذي؟ فأجاب:شكرا، لم أعد أنتظر شيئا ، وهاهو طرابيشي يرحل مخلّفا مكتبة ضخمة من المؤلفات والترجمات ، وكنت قد أجريت معه حوارا مطوّلا تناولنا من خلاله جوانب من طفولته ،وبدايات عمله، واهتماماته الفكريّة ، واشتغالاته بالترجمة ، وذلك عام 1996 ، ونشرته آنذاك في مجلة” بريد الجنوب” ، وأجد من المناسب إعادة نشره في “أثير” التي خصّها بآخر مقال كتبه في حياته، ولابدّمن الإشارة إإإّن هذا الحوار يعد وثيقة مهمّة كون الراحل تطرّق خلاله إلى قضايا مهمّة، ومشاريع أنجزها لاحقا ، فضلا عن كونه أطول حوار أجري معه ،كما لمست من خلال تتبّعي لأعماله ، ومسيرته الفكريّة .
لقد كتب المفكر جورج طرابيشي في ميادين فكرية مختلفة، في الأدب والسياسة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والفلسفة، كما ترجم العديد من الكتب الفكرية إلى اللغة العربية، مما سمح للقارئ العربي بالتعرف على الفكر الألماني، وفلسفته بصفة خاصة، والفرنسي والغربي بصفة عامة، ويعرف بغزارة إنتاجه. له ما بين تأليف الكتب، وترجمتها والمساهمة فيها أكثر من ثلاثمائة مؤلف، التي ناقش في بعضها ما يعتبر “بالمحرمات” أو المسكوت عنه في الفكر العربي حتى يومنا هذا ( المرأة، اغتراب المثقف، مذبحة التراث) حيث حلل الأستاذ طرابيشي كيف أساء المفكر العرب إلى كل هذه المواضيع بحكم انتمائه إلى مدرسة فكرية دون أخرى، فحول مسيرته الفكرية والمواضيع التي تطرق إليها كان لنا الحوار التالي:
– أستاذ طرابيشي هل لك أن تكلمنا عن رحلتك من سورية إلى لبنان ثم الاستقرار في فرنسا؟
* بدأت حياتي في حلب شمال سورية، وأنا من مواليد سنة 1939. درست في جامعة دمشق وتخرجت من قسم اللغة العربية، عام 1961. مارست تعليم اللغة العربية في ثانويتي حلب ودمشق، ثم عملت في الصحافة وفي الإذاعة السورية، حيث شغلت منصب مدير عام البرامج وفي عام 1966 انتقلت إلى لبنان إذ ترأست تحرير مجلة “دراسات عربية” مدة اثنتي عشر سنة، وفي أثناء ذلك تفرغت للكتابة والترجمة، من الفرنسية إلى العربية فقط، وقدمت ما لا يقل عن مائتي كتاب: روايات مثل “الجحيم” لهنري باربوس، و “زوربا اليوناني” لنيكوسكازانتزاكيس، رواية أعتز بها كثيرا، لأنني ترجمتها قبل أن تصبح فيلما شاهده المتفرج العربي في صالات السينما، وهي رواية نالت شهرة كبيرة وطبعت ثماني مرات، ناهيك عن الطبعات المسروقة، في أكثر من دولة عربية. كما ترجمت رواية : “المثقفون” لسيمون دي بوفوار وهي تقع في ألفي صفحة وترجمت معظم الأدب الوجودي الذي كان متداولا في ستينيات القرن الماضي، ثم انتقلت بعد ذلك إلى ترجمة كتب فلسفية: “موسوعة علم الجمال” لهيغل في اثنى عشر جزءا، و “تاريخ الفلسفة” لأميل برييه في سبعة أجزاء، وبعدها اتجهت نحو التحليل النفسي، فترجمت معظم أعمال سيغموند فرويد، وكان آخر كتاب أعددته في هذا المجال، عمل بين الترجمة والتأليف والإعداد هو كتاب “معجم الفلاسفة” الذي يقع في أكثر من 700 صفحة.ويغطي تاريخ الفلسفة منذ البداية إلى يومنا هذا بجميع لغات العالم، فلاسفة العالم في اليونان وفي الحضارة العربية والحضارة الغربية الحديثة. كما اهتممت بشكل خاص فيما بعد بالتحليل النفسي، وطبقته في بعض أعمالي، أذكر منها، “عقدة أوديب في الرواية العربية”. كما أصدرت كتابا في هذا الاتجاه عن الكاتبة والروائية المصرية نوال السعداوي، وهو بعنوان: “أنثى ضد الأنوثة” وترجم إلى اللغة الإنكليزية، كما أصدرت كتابا في هذا المجال بعنوان: “المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي” وهذا الكتاب يحاول أن يطبق منهج التحليل النفسي على ظاهرة “سوسيولوجية” اجتماعية وثقافية عامة هي ما أسميه بالعصاب الجماعي عند المثقفين العرب في زماننا الحاضر، وبالتحديد منذ ما أسميه بالردة، ردة حزيران ‘يونيو) 1967. وهي تاريخ الهزيمة العربية، التي تركت أثرا عميقا، خاصة لدى كتاب المشرق، فقد انعكست هذه الهزيمة في كتاباتهم وتحولوا بشكل عام من طليعة إلى بكائيين، وإلى الدفاع عن النفس، وهذا ما أسميه بالعصاب الجماعي. فقد شعر الناس بأن جميع الأسس التي عاشوا عليها على مدى عشرين أو ثلاثين سنة قد انهارت، وسقطت. كانت عبارة عن زلزال ضرب المثقف العربي فشعر بالحاجة لإعادة النظر في كل القيم وفي كل المفاهيم التي عاش عليها ردحا طويلا من الزمن.
-ما سر التنوع في كتاباتك، بحيث أنك كتبت في شتى ميادين المعرفة، من الفلسفة إلى الأدب إلى علم النفس؟
* ليس هناك سر، أنا ابن جيلي، حملت مع سائر أبنائه كل الهموم التي عشناها وعاشتها معنا الأمة العربية، فالمثقف في نهاية المطاف ليس كما يقال، المصباح الذي يهدي، فقط يكون مجرد مرآة تنعكس عليه صورة المجتمع، والأضواء الآتية منه، من التاريخ، من الواقع. إن المثقف يلعب دورا تنويريا ويقدم أفكارا ورؤى جديدة، ولكنه أيضا ينفعل، لا يفعل فقط، ينفعل بما يدور حوله، وينعكس ذلك في مرآة فكره. مررت في حياتي بمختلف المراحل التي مر بها جيلي، فقد فتحت عيني في خمسينات القرن الماضي على ازدهار الوجودية التي رأت النور في فرنسا، وكان لها أتباع في العالم العربي من خلال مجلة “الآداب” لسهيل إدريس، فوجدت طريقي بسهولة ضمن الركب السائر، لم أفعل أكثر من ذلك، وساهمت في إغناء المكتبة العربية بالترجمة، كانت تلك مرحلة أساسية في حياتي، ثم تجاوزتها عندما سقطت المواقف المنحازة التي وقفها جون بول سار تر وسيمون ديبوفوار تجاه إسرائيل وموقفهما السلبي من القضية الفلسطينية، فقد سار تر الهالة التي كان يمتاز بها لدى المثقفين العرب، وبدأت تحولات جديدة بعد ذلك.
– يلاحظ أنك خصصت كل حقبة من الزمن بموضوع أو دراسة، كيف تشرح ذلك؟
* هذه الدراسات هي انعكاس لحركة الواقع آنذاك، وهي في نفس الوقت محاولة لإثارته، إذن هي عبارة عن فعل ورد فعل، محاولة آخذ وعطاء، فبعد سقوط الفكر الوجودي، وخاصة بعد حرب 1967 حدث تحول عميق في الواقع العربي، ظهرت الحاجة إلى إعادة التأسيس والاتجاه نحو أمهات الكتب العربية، ثم تحولت لترجمة هيغل، فبدلا من ترجمة الفكر السريع، شعرت بأنه يجب الاتجاه نحو الفكر العميق والبعيد الأثر، فاتجهت نحو الفلسفة وعلم النفس، ونحو مفكرين استطاعوا أن يثبتوا أنهم قادرون على التغلب على الزمن، وأن صفحتهم لا تطوى سريعا كما طويت صفحة سارتر، فكر فرويد وهيغل لا يزال حيا منذ مطلع القرن العشرين.
إذن كانت عبارة عن حاجة إلى أباء مؤسسين جدد، وضمن هذا المنطق نفسه، شعرت بالتوجه نحو التراث العربي- الإسلامي باعتباره مؤسسا كبيرا لا نستطيع نحن الأبناء إنكاره، بل لا نستطيع إلا أن نعاود الانطلاق منه لكي نبني حياتنا الجديدة.
– أوليت قضايا المرأة العربية اهتماما كبيرا، فهل تطورت أوضاعها بين الأمس واليوم؟
* نعم، اهتممت بوضع المرأة، وأعتقد أنني لم أكن الوحيد الذي فعل ذلك، والواقع أن موضوع المرأة كان منذ بداية عصر النهضة موضوعا نهضويا سواء في المشرق أو في المغرب ، بمعنى أن جميع المفكرين العرب المعاصرين أدركوا أن قضية المرأة هي إحدى الركائز الأساسية التي يجب أن يعتمد عليها العرب والمسلمون في النقلة من واقع التخلف والتأخر إلى واقع جديد يسايرون فيه ركب الحضاري العالمية، وأن المرأة تقف في نقطة المفصل من هذا التطور. لم تستطع المرأة وهي نصف المجتمع أن تحتل دورها الطبيعي فيه، ولذا فإن أي نهضة حقيقية لن يكتب لها النجاح، ومن هنا نلاحظ أن تجدد الاهتمام بالمرأة مستمر، لأن المرأة العربية ما زالت إجمالا دون الرجل، في الحقوق والدراسة والعمل وغير ذلك، ومن هنا الاستمرار في التركيز على قضية المرأة أمر يطرح نفسه.
– إن أكثر من اهتم بقضايا المرأة العربية هي الدكتورة نوال السعداوي، ولك موقف من كتاباتها، فما هي نقاط الاختلاف بينكما؟
* الواقع أن الدكتورة نوال السعداوي نسوية، أو محسوبة على النسويين،كما أنني محسوب على النسويين، لأنني من أنصار المرأة، ومن هنا طرافة الصدام الذي وقع بيني وبين نوال السعداوي، عادة يقع الصدام بين عدو للمرة وبين نصير لها، ولكن هذه المرة وقع الصدام بين رجل وامرأة كلاهما في من أنصار المرأة.
إنني أكن لها التقدير لأنها كاتبة روائية ومناضلة شجاعة وضعت حياتها على كفها كما يقال، إذ تحدت عناصر كثيرة في المجتمع، مما اضطرها إلى الهجرة من مصر واللجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكن نقطة الخلاف تكمن في أنني أعتقد أنها تعتنق أيديولوجية تحريرية فعلا للمرآة، بقدر ما تبنت أيديولوجية ذكروية، رجالية، إنني أقول عنها تماما أنها كالمستعمر الذي تبنى أيديولوجية الاستعمار، بمعنى أنها تريد تحرير المرأة ولكن عن طريق تحويل المرأة إلى رجل، في حين أنني أعتقد أم المرأة يجب أن تتحرر كامرأة وأن تبقى امرأة، وأن العلاقة بينها وبين الرجل ليست علاقة حرب وعداء، بل علاقة مساواة وتكامل لأن الحياة تقوم على ذكر وأنثى.
من المؤسف أن يكون الرجل عبر آلاف السنين بفضل القوة العضلية يريد أن يفرض هيمنته وسيطرته على المرأة، وأن يقضي عليها بالحجز والسجن داخل البيت، لا تنس أن التعليم كان دائما مقتصرا على الرجال في الحضارات القديمة، ومن النادر أن تمارس المرأة حقها في الثقافة والكتابة، ربما باستثناء جزئي الحضارة العربية الإسلامية التي أنتجت مع ذلك عددا كبيرا من النساء الشاعرات رغم أنف الرجال، ولكن الثقافة العالمية كانت بشكل عام محتكرة من قبل الرجال وما زالت، أما في الحضارة الحديثة فنلاحظ بأن القوة العضلية قد فقدت دورها، لم يعد الإنسان محتاجا إلى قوة عضلية لكي يواجه الطبيعة والمجتمع والحياة، فبد اليد والساعد عناك العقل، ومن هنا تستطيع المرأة أن تستعيد حقوقها، فهي ليست مطالبة بأن توظف يديها بقدر ما هي مطالبة بأن توظف عقلها، وعقلها مساوي تماما لعقل الرجل، وإن وجد من بين العلماء من يقول بأنها أكثر تفوقا وليس أكثر دونية، أي أن هناك دراسات تقول أن عقل المرأة رغم صغره من حيث الحجم، ولكن من حيث التلافيف والذبذبات قد يكون أكثر تقدما من عقل الرجل، وأنا أعتقد بأن المرأة والرجل إنسان واحد وبنية واحدة، ومن ثم فإن المرأة ليست ناقصة عقل كما يقال عنها بل زائدة عقل.
نلاحظ أن الهجمة تشتد من جديد في العالم العربي على المرأة، وتعتبرها مسؤولة عن كل مشكلة، البطالة على سبيل المثال، وهذا منطق عجيب، فنحن نعارض تحديد النسل ونقول كل إنسان يولد يمكن أن يكون قوة عمل، ثم نقول المرأة، كلا لا نريدك أن تعملي حتى لا تنافسين الرجل، وهكذا نقضي بأنفسنا على نصف قوة العمل الموجودة في مجتمعنا.
– أود أن أعرف رأيك في المدرسة البنيوية المعتمدة في الجامعات العربية وذلك بعد أن هرمت في أوروبا؟
* إن شأن البنيوية كشأن الوجودية، أي أنها “موضة” درجت وانتقلت إلينا بالعدوى، ولم تنتقل إلينا عن طريق هضم حقيقي وتمثل فعلي للمنهج وللجو العام الذي أنتج البنيوية، تنطلق البنيوية من فكرة موت الإنسان وإلغاء الذات، والحال أنني أعتقد أن ما نحتاج إليه في العالم العربي والإسلامي هو بالضبط العكس، نحن في مرحلة بحاجة إلى بعث الإنسان، إلى إحيائه، إلى رد فكرة الذات، فالبنيوية رأت النور في ظل النظام الليبرالي في الغرب وفي ظل الفردية، ومن هنا أعتقد أن البنيوية ورثت الماركسية، وكثير من البنيويين كانوا ماركسيين في السابق، نقلوا هذه “الموضة” كمتنفس جديد لهم لطرد الذاتية، ولطرد ما يسمى بالإنسانية من الدراسات الأدبية بهذا المعنى تكون البنيوية ردة فعل على الوجودية، من حيث أن الوجودية أيضا كانت تتمحور حول الفرد الذات، فالعالم العربي لم تمر به هذه المراحل الطاغية من النزعة الذاتية، وعلى امتداد الحضارة العربية الإسلامية لم يكن للفكرة الذاتية من وجود حقيقي، باستثناء بعض الصوفيين، وبعض الفقرات عند ابن سينا الذي تحدث عن الشعور بالشعور وعن الذات.
– هناك أساتذة عرب معروفون في باريس يريدون تحليل النصوص المقدسة، أو النصوص القديمة بالبنيوية، أي لا يشجعونها فحسب بل يحثون على أن يكون لها مستقبلا أكثر ازدهار؟
– من حقهم أن يريدوا ما شاءوا، ولكن المهم هو النتيجة، فما مدى خصوبة البنيوية عند تطبيقها على النص العربي الإسلامي؟
* أعتقد هنا أن المنهج ليس هو الذي يستطيع سلفا أن يثبت خصوبته وإنما الناقد أو الدارس الذي يحسن استخدام المنهج، عندما يستطيع أن يأتي بنتائج خصبة.
المشكل مع الألسنيين أنهم بدلا من أن يطوروا المنهج البنيوي أو الألسني باتجاه النص العربي الإسلامي، بحيث يصبح ممكنا معه إبراز روحية الحضارة العربية الإسلامية، فإنهم يطبقون عليه منهجا تطور في ثقافة مكتوبة باللغة الفرنسية، ويهيمن عليها وجدان مسيحي علماني، لا يمت بصلة مباشرة للوجدان العربي الإسلامي. ومن هنا، تشعر بأنهم يقلدون تقليدا أعمى، إن النصوص بين أيديهم تتحول إلى نصول عجماء، أي نصوص غير عربية . العربي هو من يستطيع الإبانة بلسانه عن أفكاره، وليس فقط من يتكلم اللغة العربية، ومن هنا التقابل بين العربي والأعجمي، فالأعجمي ليس هو الغريب، بل هو من لا يستطيع أن يفصح بلسانه عما في داخل نفسه، ولذلك الأعجم هو الحيوان الذي لا يملك البيان والقدرة على الكلام.. فإذن النصوص لا تعود عربية بين أيدي كثيرين من هؤلاء البنيويين، أنا لا أعمم بل أقول أنه يمكن لأي دارس إذ كان فعلا مالكا لمنهجه ومالكا لموضوعه الذي هو النص العربي، أن يّأتي بنتائج إيجابية.
أما أن يأتي إلى النص العربي- الإسلامي بدون أن يطور منهجه لكي يتلاءم مع هذا النص، فأشبهه كثيرا بالأدب الذي لديه نظرية معينة في التربية يريد أن يطبقها بالقوة على أولاده، وأن يربيهم حسب هذه النظرية، في حين أن لكل ولد شخصية مميزة، فالطفل كائن له شخصيته واستقلال ذاتي، والمربي الصحيح سواء كان أبا أو معلما هو ذاك الذي يفهم شخصية هذا الطفل، ويأتيه بالتربية ومن الزوايا التي تلائم شخصيته، أما أن يفرض عليه منهجه بالقوة، فإنه سيفشل في التربية، ويفشل الولد في حياته، كما أن الولد هو الذي يعلمنا كيف نربيه، كذلك أقول ليس المنهج هو الذي يعلمنا كيف ندرس النص، بل النص هو الذي يعلمنا بأي منهج نستطيع دراسته، فالنقطة المركزية تبقى هي النص بذاته وليس المنهج الذي يأتيه من الخارج.
– كيف تقيم مسيرة الماركسية في العالم العربي اليوم بما أنك تكلمت عنها عندما تطرقت إلى البنيوية؟
* يشهد العالم العربي فترة انهيار هائلة للماركسية، لا سيما أن نسبتها كانت كبيرة بين المثقفين العرب، بعكس واقع الحال في أوروبا الغربية، حيث نلاحظ أن تاريخها الثقافي الحديث هو تاريخ انشقاقها عن الماركسية، يبدأ المثقف الأوروبي ماركسي وينتهي بنيويا أو لاهوتيا، فهو يتطور ويرتد فينشق، فتاريخ الماركسية في الغرب وفي فرنسا بشكل خاص، هو تاريخ انشقاق عن الماركسية، في تاريخ الحزب الشيوعي الفرنسي هناك أعداد هائلة من المثقفين التي تركته في حين أن ما حدث في بلادنا يكاد يكون العكس، يأتي المثقف العربي إلى الماركسية في فترة من حياته، لا يبدأ ماركسيا، ومن هنا حدثت ردة فعل كبيرة في العالم العربي لم تحدث هزة لدى المثقفين الأوروبيين لأنهم كفوا من زمن عن أن يكونوا ماركسيين، لكن بما أن الماركسية دوما عندنا متأخرة فنلاحظ أن أزمتها تواجه المثقفين الكبار الذين طعنوا في السن، ونلاحظ في الوقت نفسه في فرنسا بالذات أن هناك نوعا من إعادة الاكتشاف للماركسية، هذه الظاهرة طبيعية، كل مد يليه جزر وكل جزر لا بد أن يعقبه مد، وبالتالي بعد الانحسار السريع للماركسية وبعد أن زالت عنها الدولة الرسمية التي وظفت الأيديولوجية الماركسية في خدمة أغراض خاصة لصالح البيروقراطية السوفييتية، فانهيار الإمبراطورية السوفييتية قد يعيد للماركسية بعض الحيوية التي فقدتها ويعيد إليها شيئا من الاستقلال ومن القدرة على العطاء.
– يحمل كتابك” مذبحة التراث في الثقافة العربية” عنوانا مثيرا، فما هي أهم المحاور التي عالجتها فيه؟
* لا أنكر قبل كل شيء أن العنوان مثير أو ربما فيه شيء من الاستفزاز، حتى أن الكلام على مذبحة التراث إنما يؤخذ على الثقافة العربية الحديثة التي تبدو وكأنها مغرقة ومولعة وعاشقة للتراث، فكيف يأتي كتاب ويتحدث عن مذبحة التراث في الثقافة العربية؟
أعتقد أن هناك فعلا مفارقة، ففي الوقت الذي يبدو على المثقفين العرب وكأنهم يعيدون اكتشاف التراث العربي الإسلامي ويحبونه ويدرسونه ويمحصونه، هم في الواقع يرتكبون بحقه مذبحة والمذبحة أقصد بها تشطير وتقسيم التراث، إذ أن الذين يدرسونه من المثقفين العرب ينقسمون إجمالا إلى أربعة تيارات أساسية: التيار الماركسي، التيار القومي، التيار الفلسفي أو ما أسميه شخصيا بالتيار الابستملوجي والتيار السلفي.
– ماذا تفعل هذه التيارات بالتراث ؟
* الواقع أن جميع هذه التيارات لا تأخذ التراث كما هو من حيث هو تراث له وحدة وشخصية وبنية واحدة، بل دوما تمارس فيه نوعا من التقطيع والتشطيب، فالسلفي على سبيل المثال يقول: التراث هو فقط ما قال به السلفيون الحقيقيون من أمثال الأشعري، أو من أمثال ابن حنبل، وفيما عدا هؤلاء فهم غرباء عن التراث، فابن سينا عندهم ليس من التراث لأنه تأثر بالفلسفة اليونانية، وكذلك المتكلمون لأنهم سواء تأثروا بالفكر اليوناني أو بالفكر الهندي أو المسيحي أو البيزنطي، وعندهم أن كثيرين من الشعراء لا يمثلون التراث من أمثال أبو نواس وبشار بن برد.
لقد قرأت نصا لسلفي يقول “إن هذا رجل شبه كافر ويجب أن لا يعتد به كثيرا، وأنه من اختراع المستشرقين ولا يمثل التراث العربي الإسلامي، السلفيون يشطرون التراث وينفون منه كل ما هو نير ومنفتح على الحياة وعلى الثقافات الأخرى.
– كيف ينظر التيار الماركسي إلى التراث ؟
* يقول التيار الماركسي: نحن نريد العودة إلى التراث ولكننا لا نريد منه إلى التراث التقدمي، ونرفض ما يسمونه بالتراث الظلامي ونريد منه ما يخدم قضية الحرية والديمقراطية، والثورة والاشتراكية. وهذا أيضا نوع من التشطير للتراث لأنك تأتي إلى تراث نما وعاش وأدى وظيفته في ظل حضارة متمايزة ومغايرة لحضارة العصر، وتسقط عليه قيما ليست منه ولم يتعامل معها، كيف نستطيع أن نطالبه بأن يكون بروليتاريا وأن يخدم الأيديولوجية ، والبروليتاريا هي بنت العصر الحديث؟
– والتيار القومي ؟
* التيار القومي بشقيه العربي والإسلامي يمارس هذه المذبحة للتراث بتصنيفه إلى تراث جيد بجب أن نأخذه، وتراث مرذول يجب أن نضربه ونلغيه، فيأتي القومي العربي ويقول: لا نأخذ من التراث إلا ما كان عربيا صرفا، أي بشكل خاص ما كان جاهليا وفي صدر الإسلام، ولا يلتفتون إلى كل ما حوته بعد ذلك الحضارة العربية- الإسلامية التي انفتحت انفتاحا هائلا على جميع الشعوب والثقافاتالمحيطة بالمنطقة العربية سواء منهم الفرس أو البربر أو السريان أو الأتراك، وحتى الأرمن الذين وجدت لهم نصوص مكتوبة باللغة العربية، بالإضافة إلى المسيحية واليهودية، ونحن نعلم أن الحضارة العربية الإسلامية أعطت هامشا كبيرا لأبناء ما نسميه اليوم بالأقليات، لكي تمارس العمل والكتابة ضمن هذه الحضارة، فيقول القومي العربي: لا أريد ابن سينا لأنه لم يكن عربيا، وأرفض الفارابي لأنه كان تركيا. وجدت نصوصا عند زكي الأرسوزي وهو الذي يمثل التيار في أقصى حالاته يقول : “إن هؤلاء كلهم عبارة عن أعلاج أساءوا إلى تراثنا وشوهوا الطبيعة واللغة العربيتين، ولا نستطيع أن نعيد بناء أنفسنا إلا عندما نتحرر منهم ” فماذا يبقى من تراثنا إذا لم نبق منه سوى التراث الجاهلي ورفضنا منه تراث ابن سينا والفارابي والرازي والغزالي الكبير الذي لم يكن عربيا بالمعنى العنصري للكلمة، وإنما كان عربيا ومسلما من حيث انتمائه الفكري؟ ثم يأتي القومي المسلم ويقول: لا أخذ من الفكر العربي- الإسلامي إلا ما جسد فقط روح الإسلام، صحيح أن الإسلامي كان كان هو العامل الكبير في بناء الحضارة العربية- الإسلامية، ولكن لم يكن جميع الكتاب متخصصين في الكتابة عن الإسلام. هناك كتابات في الطب وفي الكيمياء وفي الفلسفة لا تنفصل عن الإسلام، ولكنها أيضا ليست كتابات لاهوتية، ليست تفسيرات للقرآن والحديث ، والحضارة الإسلامية لم تكن حضارة دينية فحسب، بل كانت حضارة فكر وتصوف وشعر وعمران وهندسة.
– ماذا تقصد بالتيار الإبستملوجي؟
* ما أسميه بالتيار الابستملوجي يمثله زكي نجيب محمود في مصر، ومحمد عابد الجابري في المغرب، هذا التيار يقول: نريد من التراث ما يمكن أن يكون حديثا، وأما ما لا يخدم الحداثة، وما لا يفيدنا في تسيير الدبابات والطائرات، فلا يمكن أن نأخذه فكيف نطالب التراث العربي الإسلامي بأن يعلمنا كيف نقود الطائرة؟ هذا كلام إذا طبقناه نكون قد قضينا على كل التراث العربي الإسلامي وليس فقط على شطر منه، وبالفعل زكي نجيب محمود ينتهي بالمطالبة عمليا بإحراق كل التراث العربي الإسلامي، لأن هذا التراث في رأيه لم يعد يصلح للقرن العشرين، وهذا ظلم كبير للتراث، لأنك لا تستطيع أن تطالب لا أرسطو ولا أفلاطون ولا كل تراث اليونان الكبير العظيم بأن يعلمنا كيف نقود الطائرة، كيف نقود الطائرة هذه مهمة أبناء القرن العشرين وليست مهمة التراث، ومن يطالب التراث بمثل هذه المهمة يكون قد عزل نفسه عن التراث طبعا. وحتى عن الحضارة، لأننا لا يجب أن ننسى أن أوروبا عينها قد بنت نفسها بالتواصل مع تراثها، وليس بانقطاعها عنه، فهي لم تتنكر لتراثها ولم تحكم عليه بالإعدام، فهي تعتبر استمرارا له ولكن في صيغة جديدة، يأتي الجابري ويطالب بأن لا نأخذ من التراث العربي إلا التيار العقلاني وحده، وهذا التيار عنده لا يتمثل إلا في المدرسة الأندلسية المغربية وعلى رأسها ابن حزم وابن رشد والشاطبي، فها هنا نتساءل : وماذا عن تراثنا إذا لم نأخذ سوى هذه المدرسة المغربية- الأندلسية وحدها؟ انقضي على كل التراث الذي عاشته الحضارة الإسلامية على مدى أكثر من عشرة قرون وندرجه في خانة اللاعقلانية والظلامية لمجرد أنه ليس أندلسيا أو مغربيا؟ ولمجرد أنه مشرقي، أنحكم على الغزالي وابن سينا بأنهما لا عقلانيان لمجرد أنهما من المشرق؟ يقول الجابري أن ابن سينا رائد كبير للظلامية المشرقية، رغم أنه يمثل أكبر عقل موسوعي في القرون الوسطى ، كتب في الفلسفة وفي الرياضيات وفي الهندسة وفي الطب وفي اللغة فيكفي أنه ألف كتاب الشفاء أو كتاب القانون في الطب الذي جمع فيه أكثر من ثلاثة ملايين كلمة وبقي يدرس على امتداد العصور الوسطى وحتى القرن الثامن عشر في جامعات أوروبا، اليوم لا يوجد في ثقافتنا المعاصرة موسوعة واحدة في الطب تعادل موسوعة ابن سينا، طبعا، أنا لا أقول أنه يجب أن نعتمد على موسوعة ابن سينا في الطب، ولكن أقول أننا عاجزون مع الأسف على كتابة موسوعة في مستوى الموسوعة التي ألفها ابن سينا، فكيف نحكم على فكر ابن سينا وعلى فكر الفارابي بالإعدام لمجرد أنهما من المشرق؟ وهل كان ثمة معنى آنذاك في ظل الحضارة العربية والإسلامية لفكرة المغرب أو المشرق؟ كانت الكتب تنقل على ظهور الجمال –كما يقال- بين المشرق والمغرب، فكان الكتاب يرى النور في بغداد وإذ به في اليوم التالي في المغرب، مفهوم المغرب والمشرق وجد حديثا في ثقافتنا، وربما نتيجة للعملية الاستعمارية التي قسمت الوطن العربي ومشرقته ومغربته.
أما عندما نعود إلى الثقافة الإسلامية، فنلاحظ أن ثمة هجرة متواصلة، ما كان القفيه في المغرب يكاد يرى النور حتى كان أول ما يفعله أن يذهب إلى بغداد أو يحج إلى مكة لكي يلتقي بأهل القفه والحديث ويأخذ منهم ويعطيهم مما عنده، وكانت جميع كتب المشرق تؤخذ إلى المغرب، وعندما استطاع المغرب بدوره أن ينتج أصبحت كتبه موجودة وبسرعة في المشرق ولا تنس اليوم المنزلة الرفيعة التي يحتلها الشعر الأندلسي في حياتنا المعاصرة، بالذات ومدرسة حلب الأندلسية مشهورة بذلك.
أعتقد أن هذا التمييز بين مغرب عقلاني ومشرق لا عقلاني هو الذي يقسم التراث ويطرد منه آلاف الكتاب والفلاسفة والفقهاء، ولا يستبقى منهم سوى مجموعة قليلة بحجة أنها تمثل العقلانية
– على ذكر الجابري يبدو أنه سيكون مشروع كتابك القادم؟
* بعد أن أنجزت مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، أعددت دراسة كبيرة في أكثر من ألف صفحة وسيكون عنوانها: “نقد نقد العقل العربي”.
يقول الأستاذ جورج طرابيشي في مقدمة مشرعه “نقد نقد العقل العربي: نظرية العقد” الصادر في لندن عن دار الساقي سنة 1996، ويمثل الجزء الأول.
“استغرق مني الإعداد لهذا العمل –على شيء من التقاطع- ثماني سنوات. فقد كان علي أن أقرأ لا كل ما كتبه الجابري، ولا كل ما قرأه أو صرح أنه قرأه فحسب، بل كذلك ما لم يصرح أنه قرأه وما كان يفترض به أنه قرأه: أي التراث اليوناني في جملته، والتراث الأوروبي الفلسفي والعقلي في طوريه الكلاسيكي والحديث، فضلا عن التراث العربي الإسلامي، الفلسفي أساسا، ولكن كذلك التاريخي والفقهي والكلامي والنحوي، على الأقل في أصوله ومراجعه الأمهات. ولقد اتجه المشروع في البداية- وكما الحال في كل بداية- إلى أن يكون محض نقد للجابري وتفنيدا لأحكامه وتمحيصا لشواهده. ولكن على ضخامة التزييف وسوء التأويل في هذه الشواهد، وبالتالي على فداحة العسف والغلط في الأحكام المبنية عليها، فإن المشروع –طردا- مع تقدمه ما كان له أن يكتفي بالتفكيك، بل كان عليه أيضا، كأي مشروع نقدي طالب للمشروعية الابستمولوجية فضلا عن الجدوى الأيديولوجية، أن يعيد البناء. ذلك أن مكمن القوة والخطورة معا في خطاب الجابري أنه يعرض نفسه –أو يفرضها بالأحرى- على متلقيه من خلال شبكة من الإشكاليات والحال أن كل نقد يكتفي بمناقشة نتائج الإشكاليات ليبقى أسيرا لها. فالمطلوب، قبل دحض النتائج، تفكيك الإشكاليات نفسها. فأسئلة الجابري، لا أجوبته، هي الملغومة من هذه الإشكاليات، والأسئلة، على سبيل مثال لا الحصر، إشكالية العقل المكون والعقل المكون، إشكاليات التفكير بالعقل والتفكير في العقل، إلى برهان وبيان وعرفان، إشكالية التكوين والتدوين، إشكالية عقلانية التراث المغربي ولا عقلانية التراث المشرقي، إشكالية الضدية الابستمولوجية ما بين العقل العربي والعقل ” اليوناني الأوروبي”…الخ.
والحال أن تفكيك الإشكاليات يتطلب من الناقد جهدا، ومن القارئ صبرا، ومن كليهما معا أناة، فالتقدم في حقل الإشكاليات، تماما كما في حقل من الألغام، يقتضي حذرا وطول مداورة. وما يزرع في ليلة واحدة يحتاج تفكيكه إلى شهور طوال. ومع أن مشروع “نقد “نقد العقل العربي” هذا يختصر نفسه عمدا بتفكيك إشكاليات “تكوين العقل العربي” -مع امتدادات عارضة، وحسب الحاجة المنهجية، إلى كتب الجابري الأخرى- فإنه مقيض له أن يمتد على أجزاء ثلاثة. وأول هذه الأجزاء يتناول حصرا، كما سيرى القارئ، موقع العقل العربي بين العقل اليوناني القديم والعقل الغربي الحديث. ورغم أن فتحة عريضة كهذه قد يضيق بها ذرعا القارئ المتلهف إلى حصاد النتائج، فإنها لا تغطي مع ذلك سوى الثلاثين صفحة الأولى من كتاب “تكوين العقل العربي”
من حق القارئ العربي في هذا الحال أن يسأل- وقد سألني بالفعل بعض الأصدقاء ممن عرفوا بهذا المشروع- هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟
وجوابي أن بلى . ذلك أن الجابري بالقوة التي يتبدى عليها خطابه وبالشهرة التي نالها وبإحكام الإشكاليات التي اعتقل فيها العقل والتراث العربيين، وقد بات يشكل ما أسماه غاستونباشلار، عقبة ابستمولوجية. فالجابري قد نجح- لنعترف له بذلك- في إغلاق العديد من أبواب التأويل والاجتهاد. وما لم يعد فتح ما أغلقه، فإن الدراسات التراثية لن تحرز بعد الآن تقدما، ولا كذلك عملية تفكير العقل العربي بنفسه انطلاقا من تراثه ومن توسطه التاريخي ما بين العقلين اليوناني القديم والأوروبي الحديث.
ولأصارح بعد ذلك القارئ بقضية شخصية. فلقد كنت، بعد أشهر ثلاثة من صدور تكوين العقل العربي، كتبت في العدد الأول من مجلة “الوحدة” تعليقا مطولا ثمنت فيه الكتاب تثمينا عاليا باعتباره “أطروحة من العقل في سبيل العقل” وعلى الرغم مما أبديته في حينه من انتقادات واعتراضات جزئية، فقد ختمت التعليق بالقول: “إن الذهن بعد مطالعة تكوين العقل العربي لا يبقى كما كان قبلها، فنحن أمام أطروحة تغير، وليس مجرد أطروحة تثقف”.
ولقد كان علي أن أنتظر صدور “بنية العقل العربي” وأنا أتتبع كتابات صاحب مشروع “نقد العقل العربي” في الصحافة لأتنبه إلى أن قلم الجابري ليس واحدا، وأن ما اعتبرته نقاط قابلة للانتقاد في “تكوين العقل العربي” ليست نقاطا جزئية ولا عارضة، بل هي لفكر الجابري بمثابة الأس والمنطلق . ولقد شاءت الصدفة أن أقع على الأصل الأجنبي لشاهد كان وظفه الجابري في إسناد أطروحته فشهدت لما وجدته في روحه وحرفه معا ينطق بعكس ما يقوله الجابري إياه. ومن ثم اندفعت أتحرى عن شواهد الجابري وأتحقق منها واحدا وادا، سواء كانت عربية أم أجنبية، فانفتح عندئذ أمامي باب أكبر للذهول: فليس بين مئات شواهد الجابري في “تكوين العقل العربي” سوى قلة قليلة ما أصابها تحريف أو تزييف أو توظيف بعكس منطوقها، ومن ثم ارتددت نحو “تكوين العقل العربي” أقرأه بعين جديدة وبمحاسبة نقدية صارمة. وعندئذ اكتشفت أن الزيف- ولا أتردد في استعمال هذه الكلمة- يكمن في الإشكاليات نفسها، وليس فقط في تعزيزاتها وحيثياتها من الشواهد.وعلى هذا النحو رأت النور فكرة هذا المشروع لنقد النقد الذي أضع اليوم أو أجزاءه بين يدي القارئ محتكما بدوري إلى حسه النقدي. ولست أملك سوى أن أعترف له مرة أخرى بأن قراءة “تكوين العقل العربي” قد غيرتني فعلا.فلولاه لما كنت عاودت، خلال الثماني سنوات التي تصرمت، بناء ثقافتي الفلسفية والتراثية.