أثير – المكرّم السيد نوح بن محمد البوسعيدي

يُعرف عنّا نحن العمانيين العفاف والكفاف. يُعرف عنّا عدم الاغترار بالبذخ أو الانبهار بالترف. مساجدنا كانت مضرب المثل في تواضعها الهندسي، لكنها تفيض روحانية وسكينة. قلاعنا شامخة البناء دون فحش في زخارف ونقوش مكلفة. حاراتنا كانت رياضا صديقة للبيئة قبل أن يظهر المفهوم.
كما عُرف عن العمانيين شكر النعمة والمحافظة عليها وصونها. ورغم الحروب والجفاف والجوائح التي ألمّت بعمان على مرّ العصور لم تكن هناك حالات “مجاعة” بالتعريف الحديث.
لكن ما نراه اليوم من إهدار لثروة هي من أهم نعم الله علنيا يدعونا جميعا للاستصراخ و الاستغاثة.
لعلكم مررتم بمزارع حديثة أو أموال قديمة أو حدائق أو حتى على طول الطرق أو داخل أحواش البيوت وتجدون أكواما من البسر والرطّب والتمر متراكما في الأرض يدوسه المارّة أو يُجرف مع السقّي و الحرث أو حتى يلم مع المخلّفات للأسف.
وبعضنا يتذكر تلك الذكريات الجميلة حينما كنا نستيقظ صباحا و نهرع إلى الحقول بعد صلاة الفجر لجمع ” الرقاط” من النخيل والتي تجمع في ” مسطاح ” لتجف وتستخدم علفا للحيوانات.
البسر و الرطب والتمر الساقط له طقوسه الخاصة في بلدنا عمان و هو ثروة كبيرة جدا، و كان عند البعض لا يدخل من ضمن “الطناء” و يمكن للطاني جمعه أو أهل الحي لمن يريد استغلاله.
أما اليوم فلا الطاني و لا المستطني و لا أحد يهتم به ويداس بالأقدام رغم أنه ثروة علفية عظيمة الفائدة.
إحصائيات كثيرة توجد حول ثروة النخيل في عمان. و الأقرب للمصداقية أنها تبلغ ٨،٥ مليون نخلة، وتنتج عمان ما يقرب من ٥٠٠ ألف طن سنويا من التمور. وتصنّف عمان الثاني خليجيا في عدد النخيل و يوجد بها أكثر من ٣٠٠ صنف.
وسبب الإهمال للنخلة يعود للمجتمع ذاته، فقد فقدت الأجيال المتعاقبة المهنة الموروثة وأصبح الاعتماد على الوافد وبالتالي أصبحت تكلفة “الخراف و الجداد” باهضة و لم يعد الجيل الحالي يعرف كيف يصعد للنخلة. كذا تلاشت كليا تقريبا عادة “الرقاط” الجماعية.

نعم نستصرخ مجتمعنا العماني أن يثب لإنقاذ هذه الثروة حتى لا نقع في كفرانها ويحق علينا نقمتها لا قدّر الله.
ومما يمكن فعله هو استحداث منصة إلكترونية للطناء وربما تخصيص نوعين لـ “طناء الغلّة” لمن لديه الإمكانات و اليد العاملة و المعرفة . و “طناء الرقاط” أي الثمار الساقطة و الذي يمكن أن تتولاه مجموعات من الشباب، فيستأجرون عددا من المزارع ويجمعون ثمار النخل الساقطة طوال الصيف وتعبئته و بيعة للعلف حيث يصل سعر الجونية إلى ٤ ريالات عمانية وبالتالي هو مجزٍ ماديا.
ويمكن أيضا تنظيم عمليات “الرّقاط” في كل منطقة بالاتفاق المباشر مع أصحاب المزارع و كذلك إشغال الشباب في فترة الصيف لمن يرغب في ذلك بمثل هذه الأنشطة وتحصيل عوائد مالية.
وربما يمكن الاتفاق مع الجمعيات الخيرية لتتولى هذا الأمر لمن يريد أن يهب ” الرقاط” كصدقة، أو إقامة مصانع حديثة بالمحافظات لإنتاج العلف من التمور بحيث تشتري تمور الأعلاف من المواطنين، فكل ذلك كفيل بإنقاذ هذه الثروة.

من المؤتمرات المهمة جدا التي أُقيمت في عمان هو مؤتمر الاستثمار في قطاع النخيل و التمور ( ٢٣-٢٥ مايو ٢٠١٦) برعاية ديوان البلاط السلطاني والذي نتج عنه دراسة في غاية الأهمية وضّحت كرامة هذه الثروة الربّانية وكيف أن كل جزء فيها يمكن أن تقوم عليه صناعة حديثة.
النخلة هي ليست نباتا بل هي رحما لابن آدم. ولعل أحن رحم لكل إنسان بعد الأم هي عمته.
“أكرموا عمتكم النخلة”
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم