فضاءات

الروائي الأردني جلال برجس يكتب عبر “أثير”: حين تفوز الحيوات الشخصية بنوبل للآداب

أثير- الروائي الأردني جلال برجس

في هذا التوقيت تقريبًا من كل عام تنشغل الصحافة العربية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمنابر الثقافية، وكثير من الكتاب، والمثقفين بخبر الفائز بجائزة نوبل للآداب، مثلها مثل سائر أنحاء العالم. وينقسم الناس إلى ثلاثة: منهم ما يثني على الفائز، ومنهم من يعارض فوزه، ومنهم من يراقب المشهد بصمت. لكن في المحصلة، وبعد كل ذلك الصخب، والجدل، نجد جميع من في تلك الأقسام تقريبًا قد قرروا قراءة بعضًا من نتاج الفائز على الاقل. وما هي إلا أيام أخرى حتى تنطفئ شعلة الجدل، وتبقى القراءة. الأمر الذي يقودنا إلى أن الجوائز رغم ما يثار حولها من لغط، وجدل، وتشكيك، ومدى أحقية الفائز بما نال، إلا أنها أحد أكبر دوافع الإقبال على كتب بعينها.

هذه السنة فارت الكاتبة الفرنسية، ومدرسة الأدب الفرنسي، والحاصلة على جائزة (ريندودو) الأدبية عام 1984 آني إيرنو بجائزة نوبل للآداب. وقد ترجمت ثمانية كتب لها إلى العربية ومنها أشهر رواياتها: (المكان)، (الحدث)، و(احتلال). على الصعيد الشخصي لم أقرأ لها إلا روايتي (المكان)، (واحتلال). هاتان الروايتان اللتان عرفت من خلال عوالمهما-إضافة إلى ما هو معروف عن خط آني إيرنو السردي-من أي الزوايا تذهب إلى السرد، وكيف تفهمه، وتفهم غرضه. فالكتابة عندها برأيي ذهاب إلى المناطق المعتمة في دواخلها، ومجابهة لما تراكم على سطح نفسها منذ لحظة الوعي الأول، وانعكاسها على مساراتها اليومية. فهناك تقاطع كبير بين سيرتها الشخصية، وبين رواياتها، وباقي كتبها، فالمتأمل لسيرة حياة صاحبة نوبل للآداب هذا العام، سيجد فيها حتمًا محطات غنية، وتجارب مهمة، وأحلام، وشروخات، وأحزان، وتوق إلى الحرية. لقد دفع هذا الاستثمار السردي لتفاصيل حياة آني إيرنو، وما عاشته من انكسارات، الكثير للحكم على فوزها بنوبل باللامستحق، رغم المقروئية الكبيرة التي وجدتها إيرنو منذ روايتها الأولى (خزائن فارغة) والتي نشرت في عام 1974، وقالت الأكاديمية السويدية عنها: “إنه أكثر مشاريعها طموحًا، والذي أكسبها شهرة دولية ومجموعة كبيرة من المتابعين وتلاميذ الأدب”. وقد جاء الحكم بعدم أحقيتها بالجائزة والذي أراه حكمًا متسرعًا، وبعيدًا عن التعمق بفن الرواية غير الثابت أصلًا، من الاعتقاد بعدم قدرة آني إيرنو على الابتكار الروائي والتخييل، والعمق. ومن مطروقاتها الاجتماعية، والمواضيع التي يراها البعض عادية، انطلاقًا من إيمانهم بالمواضيع الكبرى روائيًا.

حسنًا، إن هذا الاعتقاد يطرح أكثر الأسئلة إشكالية فيما يتعلق بفن الرواية: أليست حيواتنا الشخصية رواية تستحق أن تروى للقراء؟ وماذا لو ذهبنا إلى واقع هذه الحيوات بعيدًا عن التخييل، وما نعرفه من أدوات للخروج على الواقع الرديء؟ هل ينفي هذا أن في مساراتنا الحياتية ما هو أكثر خيالية من الخيال، والفنتازيا، والغرابة؟ ألا يكفي ما شهدناه ليكون عصب، وبنية ما نكتب؟
لقد عاينت آني إيرنو محطات معينة في حياتها، وبدا أنها تراجعها روائيًا، عبر علاقة ما يمكنني أن أسميه بتقنية الصورة السلبي Negative بالصورة النهائية، تلك التقنية التي كانت سائدة في الجيل القديم من آلات التصوير.


ما يحدث للإنسان يستحق أن يروى بسلاسة، وازعم أن آني إيرنو ذهبت إلى سيرتها الحياتية من هذا الجانب متسلحة بوعيها بالمجابهة، والمكاشفة، والتأمل الذاتي، وهذا المستوى السردي الذي يبدو كخيط في نهر متقلب المزاج. فهذا النوع من الكتابة الروائية لا يمكن له أن يحقق أثره القرائي إلا بعد أن ننهي آخر صفحة ونتأمل ما حدث، لنكتشف أن التي كانت وراء الرواية تنظر إلى الواقع من زاوية غير نمطية، وبأدوات غير معتادة.

لقد ذكرني هذا اللغط والجدل حول إيرنو بتلك السنة التي فازت فيها الصديقة جوخة الحارثي بـ(مان بوكر البريطانية) عن روايتها (سيدات القمر)، وكيف يمكن لرواية قائمة على عدة حكايات-يراها البعض عادية- لنساء يروين حكاياتهن أن تفوز بجائزة كبيرة مثل هذه. وبالطبع تعددت التأويلات، لكن المحصلة كانت على غير ما رشح عن تلك العاصفة التي اكتسحت الصحافة، ووسائل التواصل الاجتماعي؛ فقد قُرأت الرواية، وترجمت، وتم تناولها نقديًا على نطاق واسع.

إن السرد، وخاصة الروائي قائم على حرية في القول، والأسلوب، واللغة، والرؤية. من هنا فإني أرى عمقًا فيما يراه البعض عاديًا عند إيرنو حين تضع حياتها الشخصية على طاولة السرد ومن ثم تأخذها إلى الرواية. وإني أرى في انتخاب صور من حياتها لتكون رواية يرى الكثير أنفسهم فيها، ويؤلفون البنية العامة للروية الإنسانية، ما هو إلا ذهابًا روائيًا ذكيًا. وأرى أن التشابكات اليومية وانعكاسها على الرواية هي بحد ذاتها بعدًا فنيًا جميلًا.

إن فوز آني إيرنو، هو فوز لحيواتنا الشخصية، حين تكتب، بسلاسة، وسهولة، ويسر، وشفافية، وتأمل، وبلغة هادئة، بعيدًا عن الصخب. إنه فوز لتأمل الألم، ولمصادقته، ولمحاورته، فنحن بشر ما تزال الحكايات، حكاياتنا تستهوينا.

Your Page Title