أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج
كل العائلة تبكي وتلطم عذاب أبي.
“خيّي أحمد قطّعوه. شفته بعيني”
ليست أمي هي التي قالت ذلك ولكنها مِيمِيتْ. وتبعتها بتفصيل أكثر أختها نِينُوتْ. لقد رأيتهما على السطح. جيد أن الحركي علي لكور لم يرهما، وإلا كان قد أمر بقتلهما. لا رحمة في قلبه. كنت الوحيد الذي رأى كل شيء وعضضتُ وقتها على شفتي حتى كدت أن يقطعهما. لم أعلم باني أدميتُهما إلا عندما سألتني أمي عن الدم الذي كان على شفتي. قلت لها دون أن أنظر في عينيها، لأنها من عيني تعرف الحقيقة كلها. “تخانقت مع الحسين” لا أدري إذا صدقتني، ولكنها عادت لتستمع إلى مِيميت.
سالتها:
– إلى أين أخذوه يا أمي.
– لرحى القايد، حتى يواجهوه مع بوزياه. هكذا قال علي لكور، وأكد أنه سيقضي الليلة مع أهله. أخذوا في طريق حميد ولد عمك.
– ماذا يفعلون بهم؟ بوزيان صاحبه فكيف بواجهونهم؟
– يبحثانهما معا. متهمان بوجودهما في شبكة تمرير الأسلحة للثوار عبر الحدود.
– لماذا الرحى؟
– بوزيان يعمل هناك، ويشكان في كونها مخبأ.
نينوت وميميت، كانتا تبكيان بدموع حارة.
– يا يما شفته بعيني كيف شربوه الماء والصابون، وكيف غرسوا في وجهه شوك الهندية. الله يجازيهم على قدر شرورهم. رأيت الحركي (الخائن) علي. من اليوم كل من يبرئه هو حركي مثله.
طلت أمي وحنّا فاطنة، وإخوتي يستمعون لها ودموع الجميع لا تتوقف. زوليخا كانت أكثرنا تضررا. وضعت على رأسها عصابة، تقول لكي لا ينفجر. خرجت. ركضت وراءها. دخلت للنوالة (المطبخ الشعبي)/ حركت الخبزة. كانت دموعها مدرارة. لم اعرف ماذا أقول لها. أخذتها من يدها.
– على الحركي علي قال ليمَّا إنه سيعود الليلة بعد بحثه مع بوزيان.
– آه يا خويا العزيز؟ هل تصدق كلام حركي؟
– مش هو اللي منع بقية الحركة في ذلك اليوم من اغتصابكم.
التفتت نحو الكانون. حركت الخبزة داخل الطاجين الطيني.
– أنت صغير وفاطن. لابد أنك تساءلت. هو يريدني.
– يريد الزواج منك.
– شيء من هذا القبيل.
– كيف تقبلين بالزواج من معذب والدك.
– ومن قال لك إني قبلت. أعلق نفسي على شجرة ولن اقبل به. أثناء التعذيب قال لي في زاوية البيت: شوفي واحدة من اثنين تقبلين بي ولن يمسك أحد ولا أخواتك ولا أمك. بدون ذلك سأطلق عليكم هذه الكلاب المفترسة. كنت أرتعش. قلت له: ربي يخليك خويا علي، لا تمس عائلتي وسأفعل ما تريده. ذهب نحو منصور، وشوش في أذنه اليمنى. فأخرج يما وزهور وخير، وأنا تبعتهما. ماذا أنوي أن افعل. أن اقبل بلقائه. أدخل في أحشائه سكينة الجزار. وأسلم نفسي للسلطات الفرنسية. لكن الحمد لله هرب للسواني. وفي كل مرة يسال عني تقول له أمي: زاليخا… مشت تجيب الماء من السقَّاية (العين)
بقدر ما فرحت بزوليخا، زاد خوفي عليها.
– لا تتوقفين عن البكاء.
– واش نقدر ندير غير هذا يا خويا؟ الأدخنة والنار والحطب تعمي العيون.
نزعت زوليخا الخبزة من الطاجين. وضعت في يدي قطعة منها. كانت رائحتها زكية. أخذت الخبزة وهي تسحبني من يدي.
– قم. نروح عندهم.
كان الجميع حول الصينية يستعيدون خصال والدي وشجاعته. قالت ميميت بقليل من المبالغة:
– كانوا يعذبونه وهو مكتف اليدين. ولكنه لم يستسلم لهم. عندما زار فيهم تزربعوا، كل واحد باتجاه من شدة الرعب الذي زرعه في قلوبهم. لكنهم تكاتفوا عليه وأجلسوه من جديد. لم أر دمعة واحدة نزلت من عينيه.
بعد ساعات عاد حميد، ابن عمي. كان وجهه أزرق من الضرب.
أعطته أمي كأسا من حليب الماعز الذي كانت قد حلبته للتو، قالت له اشربه دفعة واحدة، فهو يخفف الآلام، ثم أدخلته إلى بيت حنا الذي كان فارغا.
– تعال هنا، لا يوجد أي واحد.
تنفس طويلا.
– احك يا حميد يا وليدي. لقد عذبوه هنا. ربي يجيب الحق. لم يبق لنا إلا هو.
– يا ميما واش نقول لك. ربي يجيب الحق. أنا جروني بالغلط لأني تواجدت بالصدفة في المكان الغلط. اتهموني بالتنصت. حاولت عبثا أن أقنعهم. وهددوني بالقتل إذ خرج شيء من فمي. جروني حتى الرحى مع عمي أحمد وبوزيان.
– قل لي ماذا حدث. عذبوه ثانية؟
– في البداية تكلموا مع عمي أحمد وقالو له: “قل إن بوزيان هو من جرك نحو هذه المغامرة، وهو من كان يمرر الأسلحة للثوار وأنك لم تكن إلا مساعدا. وسنتركك تعود إلى بيتك وأولادك. لكنه ظل صامتا وكأنه صخرة. كان يسمع الصراخ، الآتي من الغرفة المجاورة. ثم جاؤوا ببوزيان كان مجروحا وضفتاه يابستان. يعرف عمي أحمد جيدا. أجلسوه مقابلا لعمي أحمد. هزه الحركي منصور بعنف شديد وقال له: أنت قتل لنا إن يوزيان هو مسؤول خلية تهريب الأسلحة؟ صرخ عمي أحمد بأعلى صوته: أنا لم أقل شيئا لأني لا أعرف شيئا.
ثم التفت منصور نحو بوزيان وقال له:
– أحمد يقول إنك أنت المسؤول عن خلية تهريب الأسلحة. وأنك تخفي كمية منها في مكان ما؟ لا نريد شيئا منك. أخبرنا فقط أين وضعتها؟ ونتركك تعود إلى جنانك وفلاحتك وأهلك. قل لنا أين، ونطلق سراحك. احمد يقول إنك الوحيد الذي يعرف الحقيقة.
– لا تصدق خويا بوزيان. أنا لم أقل شيئا لأني لا أعرف شيئا. كله كذب وتلفيق.
– يا خويا أحمد ما جمعنا في فرنسا إلا العمل والخير. اعرفك جيدا. اسمع يا منصور. لا أنا ولا أحمد نعرف شيئا عن هذه الأسلحة.
رد عمي بوزيان بهدوء وخجل.
تنفس حميد بصعوبة. قالت له أمي
– إذا لم تستطع، توقف وارتح.
لا لا نقدر. ثم جاؤوا بالكهرباء لاجيجين. وضعوها في كل مكان في جسديهما العاريين. وكلما أطلقوا التيار الكهربائي علا صراخهما حتى يطال السماء. وكنت أرى لونهما يصبح أزرق ويموتان بهدوء ويتنفسان بصعوبة. شفت عمي بوزيان في كل مرة يرفع شاهده وارى صدره يصعد وينزل بسرعة. فأقول راح يموت. اريد أن اصرخ، ثم أضع يدي كلها في فمي. وكلما أحنيت راسي لكي لا أرى المشهد، يأتي منصور ويرفع راسي بالقوة:
– شوف يا وحد الفرخ (اللقيط) باش تتعلم من أسيادك. يفتح عيني بالقوة حتى ليكاد يفقئهما. لكنهم عندما يروه قد شارف على الموت، يوقفون التيار الكهربائي. فتعود له أنفاسه.
يلتفت منصور نحوي من جديد:
– وانت يا الفرخ كنت تتجسس. شوف واش يصير لك إذا مسست فرنسا بأي سوء. يجب أن تخبرنا بكل ما تراه ليس طبيعيا في القرية.
– يا سيدي منصور لم افعل شيئا. أنا كنت راجعا من المدرسة ولم أكن أعرف شيئا. شفتكم تجرجرون عمي أحمد وراءكم في السيارة فارتعبت. خفت، فهربت. لم يكن أمامي أي خيار في النهاية.
– مليح أني لم أطلق عليك النار. يهمني والدك الهارب إلى المغرب. لابد أن تخبرنا يوم يعود. نريد أن نحاوره.
شعرت بألم وأنا أفكر في والدي.
كان يريد أن يخيفني لأن والدي لن يسلم نفسه بسهولة.
بعدها أطلق سراحي. سمعتهم يقولون إنهم سيعودون لحفر المطامير كلها، بالخصوص مطمورة حنا التي لم يحفروها في المرة الماضية. لم يروها لأنها موجودة في عمق البيت حتى لا يغرقها الماء، وقت الفيضانات. قد يصلون بعد قليل. لقد رأيت علي لكور يدور من هنا وهناك، وكلما دار من هنا، هذا يعني أنه مكلف بمهمة.
– أعرف. جاء يبحث عن زوليخا. قلنا له هي عند أخوالها في الجبل. أحرز حالك. كلاب لا ترحم.
– شفتهم ميما على واش قادرين.
– أنا مررت من الداخل، غبر الهندية. لا يعرفون أني دخلت عندكم. سأخرج من نفس الطريق. وجه عمي أحمد كان معمر شوك ووجهه جريح لكنه لم يكن مرتبكا أبدا. سيخرج سالما من هذه المحنة. قولي له يرجع إلى فرنسا، أفضل. هناك يختلط بالناس ولن يعرفه أحد.
– يكون خير إن شاء يا وليدي.
سلم على رأسها، وقبل أن يخرج حك على رأسي.
– شوف أنت يا المهبول، في المرة الجاية سأهزمك في الكويرات.
– ما لازم تغش.
– هاذيك المرة كنت نمزح.
– لكنك غشيتني أنا وحسين، وسحبت منا كل الكويرات. لو كان بابا هنا، كنت أخبرته.
– لا لا يا حبيبي. كل الناس إلا عمي أحمد. خلص في المرة القادمة ستكون جولة حقيقية وصادقة وما فيهاش غش أبدا.
ثم ضرب على يدي تأكيدا لوعده.
وعود حسين لا تتجاوز ساعة.
عندما التفت كان قد طار بعيدا.
سمعت محرك سيارة جيب. تعودنا على شخيره. عرفت أن الأمر يتعلق بوالدي وليس بشيء آخر.
أنزلوه مقيدا. كان منهكا ووجهه مدمى. كان يترنح بصعوبة. ركضت نحوه لاشعورية، قبل ان اصل إليه، أخذني الحركي منصور من لباسي الذي تمزق بين يديه، عضضته بكل بكل ما أوتيت من قوة، من ذراعه. ورماني بعيدا. على فمي. ثم أخرج مسدسه. لم اسمع إلا صوت الحديد الجاف. رأيتني ميتا لحظتها. ثم عدله، لكنه عندما نظر إلى العسكري الذي كان معه، قال له:
– Ce n’est qu’un enfant, laisse le
فهمت لحظتها أنه لن يقتلني إلا بإذن الضابط الفرنسي الذي لم أكن أهمه كثيرا. قمت. منعت من الدخول إلى البيت، لكني صعدت إلى سقف عمي، ونزلت عبر بيت نينوت ومينيت الصغير، ودخلت عند حنا ومنها إلى البيت. كان صدر والدي عاريا، بطنه منتفخا من كثرة الماء والصابون الذي أرغم على شربه. شفتاه يابستان. الدماء تنز من كل مكان في جسده. كنت متخفيا وراء أمي. عالقا بلباسها كما عادتي. طلب منها والدي كأس حليب. جاءته به زوليخا بسرعة.
قال الضابط الفرنسي :
– أحمد. كنت تريد عائلتك، ها قد منحناك فرصة أن تراها.
– أشكركم سيدي.
– ساعدنا إذن على إيجاد الأسلحة التي قد تقتل صديقا كان معك في الحواجز ضد النازية.
– أنا لا أملك أي سلاح. قلت لك سابقا وأنت تفهم جيدا ذلك. قلتم إنكم لم تفتشوا مطمورة حنا فاطنة، هي أمامكم. احفروها.
– لقد سبقهم علي مع خدام وحفروها، لكنهم لم يفتحوها.
ثم أخذوه نحو المطمورة بعد أن وضعت أمي على ظهره إزارا لكن منصور نزعه ورفسه. التفت نحو ابي.
أنت من يدخل إلى المطمورة يا السي أحمد؟
– سأختنق لأنه صار لها زمان ما انفتحت.
– اختنق، أحسن. تعفينا من تضييع الوقت.
نزل والدي إلى تحت بمشقة. ساعده عسكريان على النزل. كان رائحة الرطوبة والقمح الغامل المتعفن، تشم من بعيد.
نظر إليه المنصور من فوق بعد أن وضع أمامه ضوء اللمبة البطارية التي كان يحملها.
– أملك الوحيد للنجاة. لابد أن تخرج هذه القفة ممتلئة أسلحة وإلا عليك السلام.
– لا يوجد هنا أي شيء.
سمعت صوت والدي يأتي مغموما من تحت الأرض وكأنه كان يتكلم في قبر.
ثم لم نعد نسمع صوت والدي نهائيا. صرخ أحد العساكر الذي كان يراقب المشهد من وراء منصور.
– سيدي العريف كأنه اختنق.
– ويحك. مازلنا في حاجة لشهادته. لابد أن يخرج حالا.
نزل العسكري بسرعة. وحاول أن يوقظه بقنينة العطر التي كانت في جيبه، وبعد مدة طويلة أخرجوه. كان وجهه أصفر بالكاد يتنفس. كبوا عليه سطلا من الماء البارد، فانتعش قليلا.
– لنعد به إلى ثكنة السواني.
أخرجوا تحت صراخنا وبكائنا. أركبوه في سيارة لاجيب العسكرية، وهو ينظر إلينا كأنها كانت النظرة الأخيرة. كانت مليئة بالحزن.
سطَّرنا الحركي، أنا وبقية العائلة، في خط مستقيم وألصق ظهورنا بالحائط، مع رفع الأيادي. ثم صوب بندقيته نحونا. كنا نرتجف
– Mon lieutenant que dois-je faire avec cette vermine
– Laisse tomber. Le gros gibier est avec nous
لا أعلم إذا كنت قد خفت من الموت، لكني تشبثت بعباءتي أمي وأختي الكبيرة خيرة، أما زوليخا كانت متخفية في بيت عمي. كنت واقفا بينهما، لم أشعر بالخطر، لكني كنت خائفا على والدي. ثم لم أسمع إلا شخير محرك لاجيب وهي تنحدر نحو الطريق العام. حاولت أن أركض وراءها.
– لا تروح. منصور لا ينتظر إلا هذا. يريد قتلنا. واضح. لا ينتظر إلا أمر أسياده.
لأول مرة أرى في عيني أمي الملونتين، كل الطيور التي كانت تحلق فيها، تنزل تباعا نحو الأرض ولا تطير. تردح قليلا، ثم تموت. لم أفهم لماذا هذا التحول في عيني أمي، لكنني شعرت بأن شيئا شديد الألم ينتظر. في أعلى درجات اليأس، كانت عينا أمي هما بوابات الأمل الكبير.