زاوية تربوية

تساؤلات مطروحة عن التعليم وسوق العمل

تساؤلات مطروحة عن التعليم وسوق العمل
تساؤلات مطروحة عن التعليم وسوق العمل تساؤلات مطروحة عن التعليم وسوق العمل

أثير- د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة

يثير ملف مواءمة التعليم لمتطلبات سوق العمل تساؤلات وحوارات عدة ونقاشات مستفيضة، وتداعيات أوجدها مفهوم المواءمة كنتيجة حتمية للمتغيرات المصاحبة للتعليم وسوق العمل على حد سواء، لطالما باتت تتكرر على ألسنة القائمين على مؤسسات التعليم وفي توصيات المؤتمرات ونتائج البحوث والدراسات، في وقت تظهر فيه مؤشرات الواقع جملة من النقاط التي ينبغي الوقوف عليها بحيث تشكل مدخلا للتحول في قراءة مسار المواءمة التعليمية ، فما الذي يريده القطاع الخاص من التعليم؟، وهل يمتلك منظومة كفايات محددة يطلب من التعليم العمل بها؟ وهل المطلوب من التعليم تخريج مهنيين وحرفيين، أم أن الأمر يتعداه لمستويات أخرى كالتدريب؟، هذا في مقابل ما يتكرر على ألسنه القائمين على سوق العمل والقطاع الخاص ورجال الأعمال وأصحاب الشركات بأن مخرجات التعليم غير قادرة على تلبية طموحات سوق العمل الوطني، وتتسم بالجمود وعدم القدرة على التفاعل مع مستجداته؟ وأن معالجة جادة لبنية التعليم ومحتواه ومناهجه وأنشطته وبرامجه والخطط الدراسية والمهارات يفترض أن تشكل نموذجا عمليا لاستدراك متطلبات التحول القادم.

ومع كل ما يطرح من قبل مختلف الأطراف ذات الصلة بملف المواءمة، إلا أنها لم تستطع للحظة إيجاد معالجة متوازنة واقعية مستدامة في الوصول إلى مرحلة المواءمة المنشودة، كما أنها تشير بوضوح إلى أن الجميع يفتقدون إلى مؤشرات دقيقة واضحة في رصد فعل المواءمة ، وفي فهم متطلباتها، وفي قياس نواتج تحققها من عدمه، والسبب في ذلك يكمن في أن القراءات كلها إنما تعطي مؤشرات تقريبية، وليست احتياجات دقيقة مشفوعة بالأرقام والإحصاءات، وما زالت هذه النقاشات والمجادلات بين طرفي المعادلة، تدور في حلقة مفرغة، إذ ما زالت تتبع سياسة الاتهام والانسحاب من المواجهة دون أن يكون هدفها إيجاد تحول حقيقي يظهر في عمل مؤسسات التعليم والقطاع الخاص، وسياسات العمل والتشغيل والتوظيف في سوق العمل العماني، في ظل ما صحب هذه الفجوة من تراكمات وبطء أسهمت في ارتفاع اعداد الباحثين عن عمل من مخرجات التعليم وزيادة أعداد المسرحين العمانيين من القطاع الخاص.

على أن هذه الاجتهادية الحاصلة من مؤسسات التعليم وسوق العمل وقطاعات التوظيف والتشغيل في قراءة هذا الملف ، لها ما يبررها من وجهة نظرهم لكون التعامل مع هذا الملف من التعقيد والتشعب بمكان، وهناك الكثير من التفاصيل التي تستدعي العمق في قراءة هذا الملف، من حيث استيعاب الطبيعة المتغيرة لسوق العمل واتسامه بالديناميكية وسرعة التحول، فما هو مقبول من تخصصات اليوم قد لا تكون له تلك الاهمية في العشرين سنة القادمة، بالإضافة إلى التحول في طبيعة المهارات المطلوبة في سوق العمل مع التركيز على المهارات الناعمة والمهارات الرقمية، ووجود تغيير مستمر في احتياجات سوق العمل بتغيير السياسات والتوجهات الوطنية والمؤسسية، ونظرا لعدم وجود معايير مستمرة لقياس نوعية المهارات المطلوبة والسقف الأعلى من المهارات ونوعية المهارات التي يمتلكها خريجو مؤسسات التعليم من واقع تحليل المسوحات ونواتج التطبيقات والتجارب ، ثم الهدف من التعليم والغاية منه والشكل الناتج المتوقع منه، وفلسفة التعليم وحدود عملها ومستوى المعالجة المطروحة لمحتواها النظري والفهم المتحقق لدى الآخر بشأنها، هذا بالإضافة إلى أن فلسفة التعليم بالسلطنة والإطار النظري العام الذي بنيت إليه يشير بوضوح إلى أن من بين غايات التعليم هو اكساب المتعلم مهارات العمل وقيمه، وليست المراد هنا مهارات تخصصية بل هي مهارات أساسية مرنة لا تتجاوز طبيعة المرحلة التعليمية ونوعية التعليم والذي يؤطر في حدود مناهجه ومادته ومحتواه وطبيعة الطالب في مرحلة التعليم المدرسي ، وهنا تتجه الأنظار إلى التعليم العالي الذي يفترض أنه يعد الطالب لتخصصات محددة في القطاع الخاص أو سوق العمل ، ناهيك عن التنوع في طبيعة عمل مؤسسات وشركات القطاع الخاص ذاتها، وما إذا كان دور مؤسسات التعليم يكمن في اعداد متعلم جاهز وذو قالب واحد محدد يلبي كل طموحات ومؤسسات القطاع الخاص؟ ونوعية سوق العمل الوطني ذاته وقدرته على تلمس احتياجاته ذاتيا والاستثمار في الفرص المتاحة له بدلا من تسريح الكفاءات بحجج ربحية غير مقنعة ، ثم مدى قدرة السوق المحلي على امتلاك خاصية استشراف المستقبل، وهل يمتلك القطاع الخاص بسلطنة عمان رؤية واضحة مقننة متفق عليها بين جميع مؤسسات القطاع الخاص والشركات في سقف معين تريده من التعليم، وفي المقابل عدم وجود الميدان الحقيقي الذي يمكن أن تعمل فيه هذه الكفاءات إذ لا يزال سوق العمل غير مستوعب لخريجي بعض التخصصات النوعية في مؤسسات التعليم العالي والجامعي، رغم أن بعض التخصصات النوعية التي ادركت مؤسسات التعليم العالي قيمتها وأهميتها على المستوى الوطني وعملت على طرحها في تخصصاتها إلا أن سوق العمل لم يستوعبها رغم قلة عددها، لذلك اتجهت مخرجاتها لأعمال ومهام أخرى بعيدة عن التخصص.

وعودا على بدء فإن التوجيه السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه ، في الخامس عشر من يونيو 2021 بــ ” ضرورة الإسراع في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحليل الاحتياجات والمتطلبات الضرورية لتطبيق التعليم التقني والمهني في التعليم ما بعد الأساسي بما يتوافق مع متطلبات سوق العمل واحتياجاته المستقبلية، وأهمية تبني منهجية متكاملة لآلية تطبيق ذلك وتحديد الخبرات والموارد البشرية اللازمة في هذا الشأن”؛ محطة مفصلية في مسار المواءمة من خلال تقديم معالجات شاملة تضع مواءمة التعليم لسوق العمل وتراعي المتغيرات الماثلة وتستشرف مستقبل التعليم والاقتصاد كأحد الأولويات الوطنية، والتي سيكون لها أثرها الاستراتيجي في تنويع مسارات التعليم والتوسيع في خياراته المهنية والتقنية، وتعظيم المهارات الرقمية لتحقيق مستهدفات رؤية عمان 2040.

أخيرا نعتقد بأن حسم موضوع المواءمة وإسقاطه على الحالة العمانية يستدعي تبني سياسات تكاملية مرنة وفق إطار عمل وطني واضح يتجاوز حالة الاختلالات والاجتهادات الفردية والمعالجات المبتورة والحلول المقتضبة التي يعانيها هذا الملف، بحيث يلتزم فيها جميع الأطراف بإيجاد حلول استراتيجية مقنعة وخيارات وبدائل تتناسب مع طبيعة هذه المخرجات والتخصصات وتلبي احتياجاتها، وتحقق مسار المواءمة التعليمية العادلة التي تحفظ حق القطاع الخاص والشركات وحق المنتج التعليمي والكفاءة الوطنية على حد سواء، فإن وضوح مسار المواءمة ووجود البنية التشريعية والمؤسسية والتنظيمية والهيكلية والتشغيلية له ومرجعيات الرقابة والمتابعة لما يجري في واقع العمل، سوف يضع قطاعات التعليم والانتاج أمام فعل حقيقي للمواءمة، يجيب عن التساؤلات المطروحة من قبل كل الأطراف، مشفوعة بالمعايير والمؤشرات والخطط والبرامج والأدلة ونواتج العمل والإحصائيات والأرقام والتي بلا شك تضع أطراف المعادلة ( مؤسسات التعليم، والاقتصاد، وسوق العمل) التي تقع عليها مسؤولية في ترتيب أوضاعها وإعادة هيكلة برامجها وتصحيح ممارساتها وخفض التباينات في مدخلاتها ومخرجاتها، وتقديم إطار تشريعي فاعل ومحفز وداعم للابتكار والانتاجية والاستقرار الوظيفي وتعظيم حضور التدريب وبناء المهارات، باعتبارها إجراءات ثابتة لا غنى عنها لتحقيق المواءمة.

Your Page Title