قامات مضيئة عبر “أثير”: في وداع شاعر وأديب لبنان “محمد علي شمس الدين”

قامات مضيئة عبر “أثير”: في وداع شاعر وأديب لبنان “محمد علي شمس الدين”
قامات مضيئة عبر “أثير”: في وداع شاعر وأديب لبنان “محمد علي شمس الدين” قامات مضيئة عبر “أثير”: في وداع شاعر وأديب لبنان “محمد علي شمس الدين”

أثير – مكتب أثير في تونس
إعداد: محمد الهادي الجزيري


كنت أتساءل وما أزال، أيموت الشعراء؟ أيخبو كلّ ذلك الجمر الملتهب؟ أيجفّ كلّ الزلال المتدفّق؟ نعم.. إن كان المقصود بالموت والفناء ذاك الجسد الذاوي الخاوي العائد إلى تراب، لكن تلك المشاعر والمعارف واللحظات الشعرية.. المخزّنة في كتاب أو في كتب عديدة، لا يمكن أن نصدّق أنّها تُعدم وتمسي سرابا، أسئلة حارقة مثل هذه، تجول في خاطري وأنا أهمّ بقامة مضيئة إلى الأبد، وإن رحلت عنّا منذ أشهر قليلة، وأنا أتصفّح ذاكرتي وأصافح محمد علي شمس الدين في تونس وقد حلّ بيننا ليشارك في أمسيات رائقة باسم “أيام قرطاج الشعرية” وكان ذلك في مارس 2018، وكم كان متماسكا وحاضر الذهن رغم كبر السنّ، وها هو يسلم الروح إلى باريها ويرحل بعد عمر كامل أهداه للشعر.. للقصيدة العربية، وأنا في شدّة ارتباكي أحاول أن أترك للقارئ العربي أثرا طيبا لفقيدنا الشاعر الكبير ابن لبنان: محمد علي شمس الدين…

وُلد الراحل في قرية بيت ياحون في 1942 بقضاء بنت جبيل في جنوب لبنان، وهذه القرية التي لطالما تحدّث عنها في مقابلاته الصحافية، مستذكراً طفولته ونشأته في طبيعة جبلية وبيئة رعوية، حيث كان يستمع إلى صوت جدّه وهو يؤدي الأذان والموشحات الدينية ويقرأ في تلك الفترة شعر المتنبي، والمعري، والشريف الرضي، ومؤلّفات الجاحظ، والتوحيدي، وقد نشأ في بلدة “عربصاليم” قرب النبطية، ودرس شمس الدين في بيروت وحاز إجازة الحقوق من “الجامعة اللبنانية” عام 1963، وعمل مديراً للتفتيش والمراقبة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي اللبناني، ثم تحوّل بعد ذلك إلى دراسة التاريخ حتى حصل على درجة الدكتوراة.

كتبت “العربي الجديد” يوم وفاته مقالا هاما، وممّا ورد فيه:

“هيمنت مناخات الغموض والميتافيزيقيا والغنائية على تجربته منذ إصدار مجموعته الأولى “قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا” سنة 1975، إذ يستهل قصيدة “فاتحة للنار في خرائب الجسد” في المجموعة بقوله:

للنّسْرِ الجائعِ/ للبلبل في المطر الوحشيّ/ وللطفل المذبوح على عتبات النّهْرِ/ لموسيقى الأفلاكِ/ وللفوضى الكونيّةِ/ أنزف من رئتيَّ الشِّعْرَ/ وأرفعه كالجرح الشاخِبِ في نافورة هذا العصر/ وأفضُّ دمَ الأشجار/ أفضُّ دمَ الأمطار/ أشقُّ ضريح النار بحنجرتي/ فأنا الشفّاف الآسرُ/ والمظلمُ في الآبار/ أنا الجَرَسُ المهدومْ “

كتب عن قصائده الكثير من النقاد العرب والغربيين، من بينهم المستشرق الأسباني بدرو مونتابيس وممّا كتبه عليه:
“شيء ما يبعث على المجرد المطلق، المتحد الجوهر، اللاصق بالشعر، في أثر شمس الدين، وقلة هم الشعراء الذين ينتصرون على مغامرة التخيل، ويتجاوزون إطار ما هو عام وعادي، وهؤلاء يعرفون أن مغامرتهم مجازفة كبرى، ولكنهم يتقدمون في طريقها”


وممّا قاله في لحظة يأس من الحبيبة التي تعد ولا تفي وستبقى أبدا كما هي:

“أنا الخاسر الأبدي
فلماذا إذن
أشتري بالمواعيد
هذي الحياةْ؟
قلت تأتين في الثامنةْ
وها عقربان
يدوران حولي
ولا يقفان
عقربان يدوران في معصمي
يلدغان دمي
ولا يقفان
كأن لم تكن ثامنةْ
في الزمانْ”







هذا الرجل لم يجرّب لحظة الصمت أو البكم التي تمرّ بالشعراء، بل مات وهو يكتب ويمكن القول إنّه توفيَ شعريا، قد أحبّ الشعر وأخلص للقصيدة طول حياته، وقد أعطاه الشعر كلّ ما يريد، فحبّر آلاف الأوراق وأطلق خياله فيها، ولم يعانِ العجز عن الكتابة أو “الورقة البيضاء” بحسب الشاعر مالارميه، كان طافحا لا يفارقه شيطان الشعر، فيظل منهمكاً في هموم القصيدة، وقد أصدر 20 ديواناً، ما عدا قصائده الأخيرة، عطفاً على الكتب النثرية، وبعضها يضم نصوصاً نثرية، وكتب أيضاً كثيراً من المقالات النقدية والخواطر، في الصحافة اللبنانية والعربية، متابعاً الحركة الأدبية، وممّا خلّفه الشاعر الفقيد وتركه للقارئ المجموعات الشعرية، منها: “قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا “أما آن للرقص أن ينتهي؟”، و”يحرث في الآبار”، و”منازل النرد”، و”ممالك عالية، و”شيرازيات”، و”اليأس من الوردة”، و”النّازلونَ على الرّيح”، و”كرسيٌّ على الزّبد”….

في مقالة مطوّلة نُشرت في منبر العرب، خطّ الكاتب السوري عصام شرتح نصا عميقا بعنوان: “قصائد محمد علي شمس الدين” ، وقال في خاتمته:

“الحيازة الجمالية التي تتمتع بها قصائد محمد علي شمس الدين هي نتيجة طبيعية للازدهار والرقي الفكري الذي تشتغل عليها قصائده في تفعيل دلالاتها، وإبراز منتوجها الجمالي الآسر، فالشعرية ليست وعاءً لغوياً في قصائده بقدر ما هي صيرورة رؤيا مكثفة للحدث والمشهد الشعري المؤثر الذي تبنيه قصائده على المستوى الإبداعي”

كتب يوم الاثنين 12 سبتمبر 2022، أي بعد يوم واحد من رحيله، الأستاذ عبده وازن مقالة بعنوان “رحيل محمد علي شمس الدين شاعر الغنائية التراجيدية”، ذكر فيه عدّة خصال للشاعر وبيّن خلاله ما يربطه بشعراء رواد التفعيلة، وممّا ورد فيه:

“رائد من رواد الجيل الجديد الذي أعقب رواد القصيدة التفعيلية بمراحلهم كافة، ويمكن القول إن شعره سليل حداثة بدر شاكر السياب الذي كان يعده بمثابة المعلم، وعبدالوهاب البياتي وأحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح عبدالصبور وسواهم. وقد لا يوفى مثل هؤلاء الشعراء ولا سيما السياب حقهم، عندما تُقصر حداثتهم على التجديد التفعيلي، بينما هم شعراء مضامين وأشكال جديدة، وليست التفعيلة سوى جزء من تجربتهم التحديثية. ولعل ما تميز به شعر شمس الدين، الجنوبي والوجداني والغنائي والتراجيدي، هو انفتاحه على شعريات عالمية بارزة، مع الإفادة منها ومجاراة خصائصها التقنية والجمالية والمجازية، فهو بدا قريباً من غنائية بابلو نيرودا ولوكا وناظم حكمت وسواهم من الشعراء “الإنسانويين” الذين راجت ترجمتهم إلى العربية بدءاً من الستينيات، في أوج حركة التحرر العربي ونشوء حركة الكفاح الفلسطيني”.

رحل محمد عليّ شمس الدين مخلّفا لنا إرثا شعريا ومخزونا أدبيا، ومن ذلك جملة من الأقوال والحكم التي قالها الفقيد في حياته، وسنوافيكم أيها القراء ببعض هذه الجمل الحكيمة:

“الحكمة بئر لا يشربُ منها إلا من يسقط فيها
لا ضوء هناك ولا دليل ـ من أنت؟ ـ لا أدري أرى ناراً على الزمن الجميل
جميلة هي الحياة يا صديقي فعش كما تريد أن تعيش”


توفي شمس الدين فجر الأحد 11 سبتمبر 2022 عن 80 عامًا بعد انتكاسة صحية لازم خلالها المستشفى لأيام، وقد نعتْه ابنته الشاعرة رباب على صفحتها على الفايسبوك قائلة:

“بمزيد من الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره ننعي إليكم وفاة شاعر وأديب لبنان وجبل عامل فقيدنا المقاوم الدكتور محمد علي شمس الدين”.

ورثته بقصيدة:

لم تعلمني كيف تكفن القصيدة
وقد غسلناها بدمع المحاجرْ
ولم تعلمني كيف يدفن الشعر
ولم تخبرني أن للشعر مقابرْ
حفرت كل تراب بيروت يا أبي
فما وسعتك بيروت يا أيها الشاعرْ
فأين أواري جسدك المقدس
وكيف ترثيك في الموت المنابرْ





Your Page Title