أثير- د.رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
من منطلق الدور التنويري للتعليم كمصدر إشعاع حضاري للمجتمعات، وأن دور مؤسساته ينبغي أن يتجه إلى تنشيط حركة الوعي الفكري للأجيال، وخلق روح التناغم بين الأفكار والتطبيقات، بما يتيحه من اهتمام بالموارد البشرية وتعزيز حضورها في مواقع العمل وميادين العطاء والإنجاز، وفي ظل عالم يموج بالتحديات الفكرية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية، ويعيش إنسانه حالة من التذبذب الفكري والتباين الاقتصادي، والتراكمات النفسية التي باتت تلقي بظلالها على حياته وقناعاته حول نفسه وأسرته ومجتمعه والعالم من حوله، والصورة القاتمة التي أصلتها الظروف الاقتصادية الناتجة عن شح الوظائف وارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمسرحين، والتحديات التي نتجت عن ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة والتضخم وغيرها كثير مما ولد لدى الأجيال هواجس سلبية حول عالمهم.
وبالتالي تصبح تراكمية هذه الأحداث نذير شؤم في حياة الأجيال إن لم تتكامل جهود منظومات المجتمع ومؤسساته التعليمية والأمنية والاجتماعية والإعلامية والصحية والنفسية والفكرية والدينية في تبنّي سياسات متكاملة تحفظ حق الإنسان وتحافظ على ثمرة وجوده، وتبرز عناصر القوة فيه، وتمده بالطاقة الإيجابية المحفزة له لمزيد من العطاء والإنتاجية والمبادرة، وتعمل على تدارك السلبيات والسقطات والمطبات التي تعترضه، بل وتضع حدا أمام استفحال هذه السلبيات في فكره ونفسيته وظهورها في ردود فعله وتعاملاته وسلوكه في المواقف اليومية وفي العالم الافتراضي، وفق منهجيات واضحة وأطر صحيحة وأدوات مقننة، هدفها الاحتواء، والتثمير، والبناء والتطوير، وإعادة الهندسة والهيكلة لموقع الفرد في المجتمع، والتمكين والتدريب وصقل المهارات وبناء القدرات، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، لترسم جميعها نموذج للتكامل من أجل البناء الفكري للمجتمع.
على أن تخصيص التعليم من بين مختلف المؤسسات يرتكز على الموقع الذي يمثله التعليم في قاطرة بناء الإنسان وتهذيب النشء وتربيته، فهو يتعامل مع الفرد منذ نعومة أظافره، ويسايره في مختلف مراحله العمرية والعملية، لذلك فهو أقرب المنظومات إلى فقه البناء المجتمعي، وتصحيح الأفكار والمعلومات، ولأن ما يمتلكه من فرص ومناهج وبيئات تعلم وأدوات في ظل بيئة تعليمية تضم مختلف البيئات والمنظومات سواء كانت المدرسة أم الجامعة أم الكلية أم مراكز التعليم تمثل بيئة نموذجية لبيئة الوطن، كما يتعايش فيها طلبة مختلفي المدارك، متبايني الأفكار، لديهم مدركاتهم الحسية والمعنوية التي تختلف من فرد لآخر، هذا التباين يؤسس لمرحلة مهمة من التناغم والتكامل عبر رصانة المحتوى الفكري والتشريعي والتنظيمي والتخطيطي والتوجيهي والرقابي والتقييمي، لتصبح بيئة جاذبة لكل المنظومات وتتفاعل معها مختلف الموجهات، الأمر الذي يضع التعليم أمام مسؤولية قيادة هذه المنظومة، أو على أقل تقدير توجيه بوصلتها وضبط مسارها وتقنين أهدافها، لضمان أن يكون الناتج المتحقق ملبيا للطموح، محققا للآمال، متوافقا من طبيعة الإنسان ذاته، مساهما بالدرجة الأولى في تعزيز الوعي وترسيخ القيم وتأسيس الفضيلة والأخلاق، وتقوية الهوية، واستنهاض الهمم وإبراز الروح الوطنية واستنطاق القيم، وهو بجانب ذلك بيئة تعليمية لبناء الاقتصاد وتعزيز إنتاج المعلم اقتصاديا، وتصبح الورش التعليمية والمختبرات والمعامل والتطبيقات العملية والدروس النموذجية، مساحة متجددة لصقل المواهب التعليمية وبناء قدراتهم المستقبلية.
إن ما يعيشه المجتمع اليوم من ظواهر سلبية في مختلف الأبعاد الاقتصادية، وانتشار العادات الاستهلاكية السلبية والرشوة والاختلاس والمحافظ الوهمية والاحتيال الإلكتروني والابتزاز بصور مختلفة وأشكال متنوعة وأساليب متعددة، أو كذلك ما يتعلق بالأبعاد الاجتماعية وانتشار الطلاق والتنمر وتصدعات العلاقات الأسرية والمشكلات العائلية وغيرها كثير، بالإضافة إلى الأبعاد الفكرية وتداول مفاهيم الإلحاد والنسوية والحريات والتنمر الفكري عبر المنصات الاجتماعية وإقصاء الرأي الآخر وغيرها، أو ما يظهر من أبعاد نفسية ارتبطت بجرائم القتل والمخدرات والانتحار وغيرها وما ارتبط بهذه الأبعاد اختلالات كبيرة في الوعي الفكري والالتزام الديني والانضباط الخلقي، تضع التعليم اليوم أمام مسؤولية تبني إستراتيجيات وقائية وتشخيصية وعلاجية للحد منها، وعبر جملة من الموجهات التي تقوم على تنشيط الأمن الوقائي وتعميق الحس الأمني وترسيخ معالمه، في حياة المتعلمين ومجتمع الطلبة، وترسيخ معايير الثقافة الأمنية الواعية وتعزيز حضورها في سلوك المتعلم، وتقوية الوازع الديني وترسيخ الثوابت والأخلاق، وتعظيم قيمة الذوق والجمال الفكري والنفسي، وتأصيل مفاهيم الصحة النفسية، وترقية معايير الأداء بما ينعكس على قدرة المتعلم على إدارة واقعه واتخاذ قرارات حكيمة في التعامل مع المواقف، وإنتاج الصورة الجمالية للمحتوى التعليمي وعبر قدرته على توظيف التقنية التوظيف الأمثل ليس فقط في أن تشكل سياجا يحميه من الابتزاز الإلكتروني والجرائم الاقتصادية، والهدر في الوقت والجهد والمال أو استغلال التقنية في الترويج للشائعات والمحتوى الهابط أو الدعاية الرخيصة التي باتت تعكش مشهد العالم الافتراضي، بل أيضا في تقوية دور التقنية في إنتاج الواقع عبر التقنيات الحديثة، والذكاء الاصطناعي مما يشكل قيمة مضافة في حياة المتعلم، بالإضافة إلى المهارات الناعمة وإعادة إنتاج المتعلم في ظل متطلبات المواءمة وسوق العمل وتعزيز دور المهارات الناعمة في إنتاج متعلم قادر على أن يمارس دوره باحترافية ويدير مشروعه الاقتصادي بكفاءة ويتعامل مع الظروف بمهنية ويدرك جم المخاطر ويمتلك أدوات المواجهة لها.
ويبقى على التعليم اليوم أن ينشط في دراسة الظواهر السلبية، وأن تقوم مؤسساته البحثية والأكاديمية ومراكز الاستشارات التعليمية والاجتماعية ومراكز البحوث النفسية والاجتماعية بدور تكاملي واضح في رصد هذه الظواهر السلبية في المجتمع، والعوامل المؤثرة في انتشارها ونطاقها الجغرافي، وأسباب وجودها والعوامل المهيجة لها، والفئة التي تتعامل معها والآثار السلبية الناتجة عنها وفق تشخيص معمق ودراسة محكمة ومراجعة تأخذ في الاعتبار كل المتغيرات ذات الصلة سواء كانت التشريعية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والممارسات المرتبطة بالعادات والتقاليد، وما إذا كانت تشكل عاملا مهيجا لهذه الظواهر، وكيفية الحد والوقاية المجتمعية منها، وتفعيل دور المنظومات الهامدة في المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني والمحافظات والمجالس البلدية، وتوجيه الخبرة العمانية نحو دراسة هذه الظواهر، فإن دور التعليم في رسم صورة مبرة حول هذه الظواهر، سوف يضمن تفاعل المجتمع معه، واستيعاب الخبرات والتجارب والكفاءات الوطنية ضمن نطاق مؤسساته، وتشكيل فرق عمل تقوم عليها المؤسسات التعليمية بالتنسيق مع المحافظين في دراسة هذه الظواهر وأكثرها أولوية في المحافظات بحسب طبيعة كل محافظة، نظرا لما تشكله الظواهر السلبية من مهددات للمشروع الحضاري الوطني في ظل ما تطبعه من قناعات سلبية وأفكار مبتذلة في حياة الفرد والمجتمع.
أخيرًا، فإننا اليوم أمام ظواهر فكرية ونفسية واقتصادية واجتماعية فرضت نفسها بقوة على واقعنا الاجتماعي، وإن الإبقاء عليها دون دراسة أو تشخيص سوف يترتب عليها الكثير من التحديات التي تشتت جهد المواطن التنموي وتقف في وجه استدامة التنمية وقد تؤدي إلى تراجع المشروع الحضاري العماني الذي نعتقد أن رؤية عمان 2040 تعمل على تحقيقه، وتبقى توجيهات جلالة السلطان المعظم بشأن دراسة الظواهر السلبية والتوجيهات المرتبطة بالقيم والأخلاق العمانية، محطة مهمة في استشراف التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الناتجة عنها، وإعادة قراءة وتشخيص هذه الظواهر واستنهاض الروح المجتمعية العالية لمقاومتها.