أثير – الباحث د. ناصر بن سيف السعدي
تُعدّ عمارة الموارد المائية وصيانتها من أهم وجوه الخير التي حرص الإنسان المسلم على الاهتمام بها، سواء عن طريق توفيرها على المسالك والطرق، أو العمل على تشييدها لتكون نواة للاستقرار والاستيطان البشري. وهذا العطاء نابع من القيم الإنسانية وطلبا للأجر والثواب، إذ كانت عمارة الأفلاج وإصلاحها وحفر الآبار والأنهار وغرس النخيل والأشجار معيارا للفرق بين أهل الفضل والعدل وبين التجبر وأهل الفساد، إذ يقول الشيخ خميس بن راشد العبري في هذا الصدد ” فأما الذين يخربون الدنيا والآخرة هم الذين يدكمون الأفلاج ويهدمون العمارات ويقتلون الناس ويظلمون المسلمين، وأما أبناء (الخير) هم الذين يصلحوها بالأمان والبنيان وحفر الآبار والنهار وغرس النخيل والأشجار وإصلاح المتخاصمين وبناء المساجد والحصون العالية الفاخرة وإصلاح الطرق والماء لها للمارين بالبرك والآبار وإحسان الصنائع واللباس الحسن والكرم للضيف وابن السبيل”. (شفاء القلوب من داء الكروب، 2013).
وترسخت ثقافة عمارة الأفلاج في وجدان المجتمع العماني، حتى صار الفرد يتحاشى الاعتداء عليها، ويدين بالتخلص من أي ضمان لحقه تجاه الفلج، ومن دلائل تعمق هذه الثقافة تلك التبرعات للأفلاج التي ضُمِّنْت في وصايا الرجال والنساء، حتى ذلك الفقير الذي لا يملك في حياته إلا ما يسد به رمقه يحرص أن يخص الأفلاج ولو بالقليل من تركته لإصلاحها وعمارتها.
وتمظهرت هذه الثقافة الراسخة في سلوك العديد من الأفراد والشخصيات، سواء كانت نخبا اجتماعية وثقافية وسياسية أو من عامة الناس، فقد وثقت المدونة التراثية بعضا من الأسماء التي سعت إلى تشييد الأفلاج وعمارتها، مثل هاشل بن عمران الهاشمي ” الذي أجرى فلج الجيلي وجعله للناس موردا ومأوى”. (العبري، 2013)، وجمعة بن سعيد المغيري الذي أجرى عدة أفلاج في قرى وبلدان عديدة من سلطنة عمان، منها فلج الجديد في جعلان، وفلج الوافي ببلاد بني راسب، وفلج في ظاهر بدية (السيابي، 2017).
ومن أهم الشخصيات الاجتماعية والسياسية في القرن التاسع عشر الميلادي التي كان لها دور في عمارة الأفلاج هو الشيخ هلال بن زاهر بن سعيد الهنائي، حيث برز هذا الشيخ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي كواحد من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في تاريخ التدافع السياسي والاجتماعي الذي عرفته السلطنة، وتولى زعامة قبيلة بني هناءة حتى ” فاق الأقران وطار صيته بالبلدان”، وبدأ ينتقل دوره من الحيز المحلي إلى مستوى الوطن، منذ إمامة عزان بن قيس (ت: 1871م) ثم تمكنه من قلعة نزوى، وظل بها حاكما لأربع عشرة سنة (نهضة الأعيان بحرية عمان). وإبان إدارته لمدينة نزوى ونواحيها زار داخلية عمان عام 1885م المقدم س. ب. مايلز، وقدم وصفا لشخصية الشيخ هلال بن زاهر الهنائي، إذ قال ” الشيخ هلال هو رجل مكرّم … تبدو عليه أمارات الصلابة والذكاء، وهو اليوم أحد أكثر الرجال وجاهة وسلطة في عمان… وقد جعلني أشعر في داخلي أنه من طينة رجالٍ أمثال الإمام أحمد بن سعيد: مقتدر، وحازم، وشديد العزم والإصرار على تحقيق الغاية التي يسمو إليها”. (مايلز، 1885). وإن كان هذا الوصف الذي قدمه المقدم مايلز عن الشيخ هلال يكشف عن جملة من السمات الشخصية التي أهلته لتسنم مركز الصدارة في عهده، إلا أن التقرير يفصح عن جوانب أخرى في شخصية الشيخ هلال، تتعلق بالاهتمام بعمارة الأرض والأفلاج، إذ يذكر المقدم مايلز أن الشيخ هلال قدم له عرضا حول الأحواض المائية والمحاصيل الزراعية في البلاد (مايلز، 1885). وهذه الميول نحو استصلاح موارد المياه وعمارة الأرض يؤكدها حتى محمد بن عبدالله السالمي في كتاب نهضة الأعيان، بقوله ” كانت أعمال هلال أفعال الأبطال فإنه عمر الحصون وأجرى الأنهار … وغرس من النخيل إحدى وعشرين ألف نخلة، سبعة آلاف بنزوى، وثمانية آلاف بالغافات، وسبعة آلاف ببلاد سيت ” (السالمي، 1998).
هذه الإشارات تأتي تعبيرا عما كان يشغل تفكير الشيخ هلال، وقد تحول إلى واقع تمثل في عمارة الأفلاج وإحياء الأرض بالغرس والزرع، فقد بلغ عدد الأفلاج التي أجراها واستصلحها أكثر من اثني عشر فلجا.
ويظهر من التركيبة الجغرافية لتلك الأفلاج أنها تتوزع بين بهلاء ونزوى وعبري، وحسب مصادر مياها فهي تتوزع بين أفلاج عينية وغيلية وعدية. ومن تلك الأفلاج ما يزال عامرا إلى زمان الناس هذا، مثل فلجي الغافات والنطالة في بلدة الغافات بولاية بهلاء، وفلج القرى في بلدة عملا بولاية عبري. ومن الأفلاج الميتة فلج الحديث في بلاد سيت بولاية بهلاء، وهو فلج عدي.
وقد أثبت محمد بن عبدالله السالمي في كتاب ” نهضة الأعيان” تسعة أفلاج من الأفلاج التي أجراها واستصلحها الشيخ هلال بن زاهر الهنائي، وهي كالآتي:” فلج بلاد سيت، حيالة العقبة، فلج وحشا، فلج الغافات، فلج النطالة، فلج العقيصي، فلج القرى وأجرى بوادي العلا فلج الحديث، وحفر بنزوى فلج ضوت المعروف بالقبة”. (السالمي، 1998).
هذا العدد من الأفلاج التي أجريت واستصلحت من قبل شخصية واحدة، لم يذكر لها في التاريخ مثيل إلا ما قام به بعض الأئمة في عصر اليعاربة (1624-1749م) خاصة أولئك الأئمة الذين تميز عصرهم بعمارة الأفلاج وإحياء الأرض بالغرس.
مراجع
● شكر وتقدير لمكتبة كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج- أركيوهيدرولوجي، جامعة نزوى، التي أسهمت في توفير مصادر ومراجع هذا المقال، والشكر موصول لجميع العاملين في الكرسي.
خميس بن راشد العبري. (2013). شفاء القلوب من داء الكروب. مسقط: مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي.
س. ب. مايلز. (1885). ملاحظات حول جولة في أرجاء عمان والظاهرة.
عبدالله بن راشد السيابي. (2017). معجم القضاة العمانيين. مسقط: خزائن الآثار.
محمد بن عبدالله السالمي. (1998). نهضة الأعيان بحرية عمان. بيروت: دار الجيل.