الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: ذُكُورةُ مَريِضَة تَسْرِقُ مِنْ مَيْ أنُوثَتَها؟

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج

كانت مي امرأة استثنائية في كل شيء، لهذا دفعت الثمن غاليا في مجتمع لم يكن ذكوره مهيئين لقبول امرأة تخرج عن المألوف والمتداول. كل ما فيها كان يندفع إلى الأمام ولا يقبل الالتفات إلى جاذبيات الخلف السهلة. كانت متعددة المواهب. باستثناء موهبة الكتابة المعروفة، فقد كانت مي رسامة، كلما انتابها حزن، أو غضب، أو سوداوية، ذهبت مباشرة نحو الألوان. الألوان تخفف ظلمة الروح. وقد تذهب أيضا، في حالات القلق القصوى بسبب كآبتها المزمنة، نحو الموسيقى. كان لديها بيانو ظل يصاحبها في حياتها القصيرة نسبيا، كانت تعزف عليه الكثير من كلاسيكيات الموسيقى الغربية التي كانت متعلقة بها.

تعلمت مي العزف على البيانو في مختلف الأديرة التي وضعها فيها والداها، والتي كانت تحتوي في أغلبها على بيانو وتنشد على إيقاعاته البنات الصغيرات أو شابات الأديرة الأناشيد المقدسة. لكن مي كانت تحاول دوما الهرب من العوالم التي تحصرها في نمط معين، مفروض عليها بالقوة. حبها الكبير لعزف سيمفونية كارمن سيلفا الحزينة التي ألفها يوسف إيفانوفيتشي (1845-1902) في سنة 1892، كان يأسرها ويخطف روحها. ارتبطت مي بشخصية كارمن سيلفا (إليزابيث باولين أوتيللي لويز دو ويلد، ملكة رومانيا) كثيرا، وكتبت عنها في الكثير من المرات، في تعاطف ظاهر. تقول في مقالة لها تحت عنوان كارمن سيلفا، وُجِدت ضمن مقالاتها المفقودة ونُشرت لاحقا خارج أعمالها الكاملة: إنها من الشخصيات النادرة في العالم، ترتفع بقيمتها المعنوية فوق كل علاقة زمنية. الوطن بحدوده ضيق على هذه الشخصية، فوطنها الحقيقي هو العالم والإنسانية. وتقول في مكان آخر عنها أيضا: رماها الناس بالتُّهم الفظيعة، ثم بقصور العقل والجنون، ذلك لأن نفسها الكبيرة بريئة صادقة، تحوم فوق الكثير من الإصلاحات البلهاء والأكذوبات الاتفاقية الخبيثة. ولما كانت الجمعية تكشر عن أنيابها، محاولة نهش تلك النفس النقية، كانت كارمن سيلفا تقصد صديقتها الجميلة (هلينا)، وتجلس الساعات الطوال بقرب ضريح ابنتها الوحيدة المائتة (ماريا)، وتتكئ على مرمره باكية كمن يلتجئ إلى صدر حنون… هذه هي الأميرة الألمانية التي ظلمها قومها. ابنة الغرب وملكة في الشرق. أم لفتاة مائتة، وأم لكل من أحسنت إليهم، فأساءوا إليها وتقول في نهاية مقالتها: هي إحدى النساء الثلاث اللواتي أكبر أسماءهن، واضعة عند أقدامهن إعجابي وإعظامي، وهنّ: هيباثيا، ومدام ماري كوري، وكارمن سيلفا، لأنهن حققن وجود المثل الأعلى في النساء. المثل الأعلى الذي رسمه قاسم أمين.

نعرف الآن بسهولة لماذا أحبت مي سيمفونيا كارمن سيلفا التي فضلت الكتابة والترجمة، وعشق الحياة على السلطة والحكم. واتهمت في النهاية بالجنون لكنها ظلت تصدح بالشعر على حافة البحر حيث بيتها الجديد. كانت تريد أن تتحول إلى منارة للسفن المسافرة والقادمة بقول شعرها في المكبرات الصوتية. نعرف لماذا كانت تتحد، بمساعدة صديقتها الروحانية هلينا، مع روح ابنتها ماري التي كان عمرها أربع سنوات عندما توفيت، إذ سافرت معها تاركة الملك كله، وعندما عادت وجدت من نمى في غيابها فكرة الجنون، والمثلية السحاقية، وغيرها. لم تكن تعني الوجاهة أي شيء بالنسبة لكارمن سيلفا. وجدت مي فيها مهربا روحيا أمام غطرسة مجتمع ذكوري لم يكن يفهم شجنها وأحلامها الكبيرة. لهذا، كلما ضاقت بها سبل الحياة، كانت تهرب باتجاه البيانو الذي سرق لاحقا من بيتها بعد استيلاء ابن عمها جوزيف على كل ممتلكاتها، وعزف مقطوعات كارمن سيلفا في خلوتها الحزينة وعزلتها القاسية، وعزف باخ أيضا الذي كانت كارمن سيلفا تحبه وتقدسه. كل هذا وجد في أعماق مي صدى كبيرا لأنه يشبهها بشكل كبير إذ لا يمكن تفادي المقارنة. بل تماهت فيه لدرجة عميقة.

ألم تكن مي امرأة استثنائية؟ ألم تمنح حياتها كلها للأدب ولم تلتفت لأملاك والدها إلا عندما دفنها أقاربها وأبناء عمومتها في العصفورية بسبب الميراث؟ ألم تُتهم بالجنون أيضا؟ ألم تفقد أخا لها في وقت مبكر مما جعل داخلها يعاني من فراغ الأخ الحامي، الذي ظلت تبحث عنه بما في ذلك في العلاقة مع جبران، لكنها لم تتمكن من إيجاده. ألم تكن مي كاتبة ومترجمة اختارت اسما مستعارا للتأليف: إيزيس كوبيا. الأقدار تصنع أحيانا في سرها، ما لا نعرفه، لكننا نحسه ونكتب عنه، وكأنه يخصنا؟ فما عانته مي زيادة كان كبيرا وقاسيا، وهو يرسم حالة رمزية عن وضعية المثقف العربي في عالم لا يجد فيه مكانه بسهولة. هو في آخر سلم الترتيب الاجتماعي على الرغم مما يمنحه من روحه وصحته وحيات…

Your Page Title