أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج
لماذا كلما تعلق الأمر بمسألة الهويات الناظمة لثقافتنا وتاريخنا في البلدان المغاربية مثلا، تحولت المسألة إلى ساحة للمعارك غير المجدية، في غياب كلي للنقاش الموضوعي الفعال؟ النقاش المنتح للأفكار Débats Producteurs d’idées، هل لأننا نخاف من معرفة أنفسنا وتعريتها وتبيان حالات ضعفها وانتصاراتها وانتكاساتها، ونقدها بقوة جارحة إذا تحتم الأمر، حيث يجب فعل ذلك بكل رصانة وموضوعية. التاريخ، كما كل الأمم، جعلنا نحمل الكثير من ندوبه التي علينا فتحها وإزالة كل الصديد المخزّن فيها، كما فعل الآخرون. لا يوجد تاريخ صاف ونقي. يوجد تاريخ يصنعه البشر بكل ذكائهم وغبائهم. مثال واحد من الحماقات المرتكبة، لماذا حولنا الغنى اللغوي في البلدان المغاربية الذي يفترض أن يكون دافعا حضاريا وإنسانيا، إلى أزمة ثقافية كبيرة قسمت المجتمع الواحد إلى جزر مختلفة، لكل واحدة منها، يقينياتها وأوهامها وأناشيدها وأعلامها التي ترفعها هنا وهناك؟ مسالة النّحن والآخر أصبحت تعتبر عند فريق ثقافي بكامله، متخفٍّ وراء هويات هشة وغير واضحة، وحضارة في أحط مراحلها اليوم، رسالة مبطنة لتمرير خطاب كولونيالي مقنع، بدل مناقشتها وكشف سبل الاستفادة منها إلى أقصى الحدود، كما فعل اليابانيون والفيتناميون؟ هوياتنا الأمازيغية والعربية والمكونات التاريخية الأخرى، الدينية المتعددة والثقافية، تحولت كلها إلى عقدة ووسيلة لنفي أي تنوع أو تعدد؟ ولنا أن نعد الأمثلة الشبيهة وهي كثيرة وكلها لم تناقش بالهدوء الذي يلزمه إشكال معقد كهذا. “المتوسطية” أيضا لم تنفذ من هذه المسبقات، على الرغم من أن المقاربات الموضوعية التاريخية متوفرة لفهم آلياتها.
تثير المتوسطية نقاشا حيويا في السنوات الأخيرة. مما يضعنا أمام سؤال مركزي قل ما ننتبه له في نقاشاتنا: هل نحن أمام متوسطية واحدة أم متوسطيات؟ وما هي المعاني المبطنة لكل متوسطية؟ في اللحظة التي تتم فيها أدجلة المفاهيم والممارسات الثقافية والسياسية، يحدث شرخ قوي يضع يقيننا أمام اختلالات جوهرية وقلق متزايد، وتصبح الرؤى متعددة وتحتاج إلى قوة جامعة ومتبصرة، تحكمها وتوجه تشظيها الكبير.
يمكننا أن نقول، مع بعض الاختزال، إن هناك متوسطيتين، متوسطية سياسية مبنية على المصالح المباشرة، اقتصادية وغيرها، تبحث عن تمرير خطاباتها الجديدة المحكومة بوازع تاريخي متوارث لم يوضع على طاولة النقاش الحاد والحقيقي. ومتوسطية ثقافية أكثر اتساعا، قابلة منذ البدء لأن تعيد تفكيك العلاقات من أجل إعادة بنائها وفق معطيات عصر تغير فيه كل شيء، بما في ذلك ما كان يبدو مستقرا. للأسف، ما تزال الكثير من التصورات “التثبتية” مهيمنة على ضفتي المتوسط مما يمنع تطور النقاش الحقيقي بهذا الاتجاه. الضفة الشمالية لها رؤيتها للمتوسطية، تغلب عليها عموما براغماتية ضيقة لا ترى في الجهة الجنوبية خيارات وتمايزات تحتاج إلى فهم ومقاربات جديدة. وتنمي بالتساوي مع ذلك أفكارا وتصورات اختزالية بحيث لا ترى في الضفة الجنوبية إلا الإرهاب الذي هو حقيقة تاريخية غير مفصولة عما حدث في الضفة الجنوبية في ظل أنظمة لا ديمقراطية أغلبها يقع تحت رعاية المتوسطية الشمالية لضمان استمرار المصالح، والهجرة غير الشرعية التي انغلقت في وجهها كل سبل الحياة الكريمة والعيش، والمواد الأولية، النفط تحديدا، التي يحتاجها شمال المتوسط لاقتصاداته، ولا يكلف نفسه نقاشات أعمق لكل هذه القضايا بوصفها محصلات ونتائج لخيارات غير موفقة، للضفة الشمالية مسؤولية كبيرة فيها. ومتوسطية جنوبية تعيش كذلك في نزعاتها التثبتية المبنية على خلفية ممارسات حركات التحرر الوطني التي نمت خطابات ما تزال متشبثة بها على الرغم من أن التاريخ تغير والزمن الذي مر يفترض لأن يجعل الرؤى أكثر براغماتية بالمعنى التاريخي للكلمة، وكأن تاريخنا لا يتعفن لا يتعفن كما يقول كارل ماركس، ولا يتحول ليتغير وتتغير معه النظم وفق حاجاتها المعاصرة، ولكنه كتلة ثابتة صنعت في حقبة زمنية محددة، ولم يعد من الممكن تفكيكها وتجديدها. النقاش في هذا السياق منعدم تماما. وحلت محله الخطابات التاريخية التي تتعامل مع التاريخ كأنه نوستالجية فقط.
وهذه النظرة المانيكية Manichéenne للمتوسطية لا تقدم شيئا بل تحصر كل شيء في لحظة زمنية وتتوقف عندها بدون حركة، مع تموقع مسبق وعدم إنصات للتحولات التي يفرضها التاريخ والمجتمع.
توجد طبعا داخل هاتين الرؤيتين اختراقات عديدة ولكن صوتها غير مسموع حتى اليوم. هذه الرؤى السياسية المهيمنة محكومة في أغلبها بنظام أيديولوجي ظاهر أو مبطن، ينعكس بالضرورة على الفعل الثقافي، قاسمة المتوسطية وفق هذا المنطق، إلى متوسطيات متقاتلة ورافضة لبعضها البعض، لأنها في الحالتين إما تنام على يقينيات الفكر الكولونيالي المتهالك القديم وعلى عقدتي التقدم ومركز التفكير، وإما على الفكر التحرري الوطني الجامد الملتصق بخطابات أصبحت جزءا من التاريخ، الذي بدل أن يتحول إلى فكرة بديلة، ترسخ كنظام فكري يستفيد منه جيش من الانتهازيين المتخفين تحت العباءات الوطنية الضيقة. مع أن المتوسطية من حيث هي فكرة ثقافية وحضارية حكمت الضفتين وأبعدتهما دائما عن السقوط في الحلول السهلة.
فقد نشأت على الحواف ثقافات إنسانية غيرت نظام الحياة إيجابيا على الرغم من الحروب المتتالية، والحضارات المتعاقبة التي نشأت على ضفتي المتوسط، من الحضارة الفرعونية إلى الحضارة الرومانية إلى الحضارة الإسلامية، إلى الأوروبية، إلى العولمية التي ضاق فيها العالم حتى أصبح قرية. عندما وضع إسكندر الأعظم أحجار مكتبة الإسكندرية، كان يفكر في أفق أوسع من مجرد الاكتفاء بالمكوث في الجنوب. ولم يكن طارق ابن زياد يفكر في الاكتفاء بمجتمع اكتشفه، قبل أن يضع فيه اللبنة الأولى لحضارة ستستمر ثمانية قرون ونصف، كشفت للعالم أن هناك صوتا آخر كان في طريقه إلى التسيد: صوت الإمبراطورية الإسلامية. يمكن للشعوب أن تخرج من مهالك الحروب التي طبعت الضفتين عبر التاريخ، بتقاسم الثقافة وتحويلها إلى قوة خلاقة للإبداع والفكر. كما كان ذلك في القرون الوسطى عندما كانت تنتقل الكتب والمخطوطتين بين الضفتين غبر السفن والوسائل المتاحة مما ساعد البشرية على التنوير والخروج من دائرة العزلة.
مدرك أن الأمر ليس سهلا، وقد يكون ذلك في الدستوبيات القاهرة، مجرد يوتوبيا ذهنية.
فقد انتهت حروب الهيمنة، وبقيت أيديولوجياتها، ونشأت في مكانها أيديولوجيات الخوف من الآخر الحامل لعناصر جديدة مهددة للثقافة المحلية؟ السؤال ليس في طرح المشكلة، ولكن في المسبقات المصاحبة لهذا النوع من النقاش الذي لم يتخلص من أيديولوجياته التاريخية. وربما كان جوهر الأزمة هنا، وليس في المتوسطية من حيث هي نزوع ثقافي خلاق، وهوية متعددة في مكوناتها وتاريخها. وكل أحادية هي إقصاء للمتوسطية ذاتها. السؤال الطبيعي، هو، إلى أي حد يستطيع المتوسطيون أن يتخلوا عن يقين الحقيقة المطلقة، ويصغوا إلى عنصر التعددية في فكرة المتوسطية؟ كيف يجعلون من المتوسط بحيرة سلام وتبادل ثقافي واسع، فما يجمع كبير. هو حلم يستحق ذلك بدل إخراج حرائق الحروب من أعماق البحر والتلويح بها. المتوسطيون العرب مثلا، والغربيون أيضا، ينتمون جزئيا إلى فضاءات جانبية غير المتوسطية، لها أثرها الثقافي والمعتقدي، وتجاذباتها الثقافية والحضارية ومصالحها أيضا. هناك تماهي الشمالي (المتوسطي) في تاريخه الأوروبي والمسيحي، وهناك تداخل الجنوبي (المتوسطي أيضا) مع حيزه الإسلامي والعربي والإفريقي؟ وفي ظل هذا التجاذب الجهوي والديني واللغوي، هل يمكن للمتوسطية أن تتحول إلى حلقة وصل للنقاش على الأقل، وتجعل من السجالات الدينية والتاريخية إمكانية للتأمل، فتتحول المتوسطية من يقين مطلق، إلى نظام مفتوح على كل هذه الاختلافات التي ليست بالضرورة مغاليق منتهية، بل منافذ للفهم وإنتاج فكر العصر.
الغريب في هذه المتوسطية أنها لم تنتج معرفتها ومقارباتها الحقيقية على الرغم من الجهود الموجهة بهذا الاتجاه، وما تزال رهينة المعارف السائدة المتأتية من ظروف قاهرة سيدها الأول الحروب من جهة، والخوف من الآخر الذي “يخفي أكثر ما يظهر” محملا بذاكرة النار والبارود. ليس هذا قدر المتوسطية ويجب ألا يكون. وعلى الرغم من ذلك تظل المتوسطية رهانا من أجل السلام والتنوع الثقافي. لا شيء يمنع يمنعها من أن تتحول إلى أفق حواري قوي ومتين، خارج مدارات “صدام الحضارات”، وإنساني بالدرجة الأولى، ومصلحي أيضا، ينصهر فيه التاريخ والخلافات الموروثة وتذليلها. وتتم فيه مساءلة المختلف بمزيد من المسؤولية التاريخية لدرء مخاطر التطرفات الصاعدة. ليس غريبا ما نراه اليوم من تصاعد لليمين المتطرف في فرنسا وإيطاليا، وإسبانيا وفي البلدان الإسكندنافية، وغيرها، على خلفية أزمات اقتصادية مفقرة للفكر، وما نراه من تطرفات جنوبية شبيهة، مبنية على الخوف من عدو غامض تضخمه التيارات الإسلاماوية المتطرفة، والدكتاتوريات العربية والإفريقية التوريثية. هذه التطرفات الخطيرة، تسمم أي تقارب بين ضفتي المتوسط.
إن تحويل المتوسط إلى بحيرة ثقافة وسلام، يمر بالضرورة عبر مواجهة هذه المعضلات بشجاعة مشتركة، لأنها لا تتهدد بلدانها فقط، ولكنها تتهدد العالم أيضا بفاشيات تدميرية تلوح في الأفق. عندما قطع ميغيل سيرفانتس المتوسط وهو عائد من معركة ليبونت Lépante، بذراع واحدة، من حروب دينية مدمرة: مسيحية/ إسلام، لم يكن يعلم بأن جزءا من حياته سيتوقف هناك، وسيؤخذ إلى الجزائر التي كان يسميها “عش القراصنة”، داخل لغة وخطابات تحكمها الحروب، ويمكث سجينا وشبه حر في الوقت نفسه بالخصوص عندما أصبح في قصر الأغا حسن فينيزيانو، لمدة خمس سنوات، ليكتشف أن المتوسطية التي كان يحملها كان لها الحروب والمسبقات المميتة، فتغير رأسا على عقب وأصبح ينظر لتلك الجهة الجنوبية من المتوسط بغير المنظار الذي حكمته الضغائن “فمن جهل شيئا عاداه”.
سؤالنا اليوم الذي لا يمكن تفاديه، ونحن نبحث في المتوسطية في أفقها الأكثر اتساعا وجراحاتها: هل كان سرفانْتِس رجلاً محظوظاً؟ دون شك، نعم. لقد خرج من دوامات قاتلة، الواحدة أسوأ من الأخرى. صدف الحياة تكاثرت معه حتى أصبحت قانوناً. فقد نجا بأعجوبة من حرب «ليبانت» حيث فقد ذراعه اليسرى. شارك في الهروب باتجاه ورهان مع مجموعة من أصدقاء، لكن يلقى القبض عليهم ويعدمون كلهم، سرفانتس وحده من نجا من مجزرة الإعدام بتدخل شخصي من الحاكم حسن فينيزيانو. كان سرفانتس في حروبه الدينية ضد الدولة العثمانية تحديداً، ينتظر متى يتم الهجوم على الجزائر لإبادتها، فهي «عش للقراصنة». الذي حدث هو العكس، فقد وجد الكثير من حريته وهو سجين في الجزائر العاصمة، بتعبيره في كتبه: «دون كيخوتي» وفي «سجون الجزائر» و«الحياة في مدينة الجزائر»، وفي قصصه القصيرة: «قصص نموذجية» التي جسدت علاقته بقوة مع الجزائر «العثمانية»، في تناقضها وترددها. فقد كان سجيناً، ويسمح له بالخروج في أوقات فسحته، وعندما اشتراه حاكم الجزائر، حسن باشا، أصبح سيد القصر إلى أن تم تحريره بفدية.
هناك صدف غريبة حكمت حياة سرفانتس، قليلاً ما تحدث عنها المؤرخون، وهي التي ستسمح له بالعودة إلى إسبانيا، وكتابة نصه الاستثنائي: دون كيخوتي. في 29 ماي 1580 يصل الأخ خوان جيل إلى الجزائر بصحبة الأخ أنطون دي لا بلا Fray Anton de la bella بهدف إنقاذ الرهائن. وجدا مدينة تستيقظ بصعوبة من مأساة المجاعة التي أصابتها، والتي حصدت أكثر من 5000 شخص في شتاء واحد. وبدأ رجلا الدين الحوار والاتصالات مع البحارة وحسن باشا، ولكن بدون جدوى؛ لأن الحروب البحرية ضد السفن الغربية المسيحية كانت طاحنة وعادت من جديد لتحتل الواجهة. استطاع الرجلان أن يشتريا أكثر من مئة رهينة، ولكن سرفانتس لم يكن في حسابهم. وكان الوقت ضيقاً لأن حسن باشا المتعاطف مع سرفانتس جداً، ويعرف خبايا كل المفاوضات، كان بدوره يستعد للعودة إلى تركيا بعد انتهاء مهمته كحاكم للجزائر، ومعه رهينته المقربة منه. اقترح حسن باشا استرجاع نقوده فقط التي اشترى بها سرفانتس، أي 500 أوقية ذهب، وطلب 1000 أوقية على جيرونيمو دي بالافوكس Jeronimo de Palafox. ونظراً لعدم توفر السيولة الكافية، قرر الأخ خوان جيل شراء سرفانتس. كان في حوزته 280 أوقية ذهب، أضاف عليها 200 أوقية أخرى انتزعها من مخزون التثليثيين بعد استشارات معقدة، ثم ذهب مباشرة نحو قصر الباشا الذي كان قد غادر باتجاه ميناء الجزائر استعداداً للعودة إلى القسطنطينية. في 19 سبتمبر 1580 عندما كان الباشا يستعد لمغادرة الجزائر في صحبة رهينته وصديقه، وينتظر تحول اتجاه الرياح، حدث الذي لم يكن في الحسبان. في تلك اللحظة بالضبط، يصل الأخ خوان جيل، ويوقف السفينة ويضع في يد الباشا 500 أوقية ذهب التي طالب بها مقابل التخلي عن سرفانتس. وينزله من السفينة لتبدأ رحلة حياة أخرى لم تكن أقل شططاً، لكنها فتحت بوابات النجاح أمام سرفانتس ليصبح قيمة ثقافية عالمية. محاكم التفتيش لم تكن تنظر بعين الرضى إلى علاقات سرفانتس مع الجزائريين ومع الحكام العثمانيين في الجزائر. فكان على سرفانتس حل مشكلته مع بلانكو دي باث، مفوض محاكم التفتيش المقدس، الذي اتهمه تهماً خطيرة أقلها يقوده مباشرة إلى المحرقة، كالتعاون مع الباشا، واعتناق الإسلام، والعلاقة المثلية مع حسن باشا، والتعاون المشبوه مع حاجي موراتو (حاج مراد). حتى يحمي نفسه من غطرسة بلانكو دي باث، طلب سرفانتس في 10 أكتوبر/ تشرين الأول، بإجراء تحقيق حول وضعيته، حتى يتمكن من العودة إلى إسبانيا بلا تهم على عاتقه. وقد شهد في صالحه 12 شخصاً، بحضور الأخ خوان جيل، دافعوا عن حسن سلوكه في السجن أو خارجه، وانضباطه وحبه لدينه وملكه. الوثائق المتبقية من هذه المرافعات مهمة، لأنها تظهر لنا بالفعل جزءاً من حياة سرفانتس الصعبة في الجزائر. كانت هذه الشهادات وسيلته للدفاع عن نفسه والانفلات من مخالب محاكم التفتيش المقدس. في 24 أكتوبر يستقل سرفانتس سفينة مايس أنطون فرانسيس Maes Anton Francès، باتجاه إسبانيا بعد خمس سنوات غياب في الجزائر. وفي فجر 27 من الشهر نفسه، تظهر علامات الأراضي الإسبانية في الأفق، وشمال أليكانت، واضعة أمامه أملاً كبيراً في استعادة حياته الأولى. بعد نزوله في دينيا Denia لمدة ثلاثة أيام، واصل سرفانتس الرحلة باتجاه فلانسيا، ثم مدريد. وقد منح لهذه الرحلة مساحة عريضة في مسرحيته: «الحياة في الجزائر».
الجزائر (عش القراصنة) لم تفتح لسرفانتيس فقط الآفاق الواسعة لمعرفة بلد لم يتلقه إلا من الدعاية الدينية المسيحية، ولكن سمحت له أيضاً بالذهاب بعيداً فيما سيصبح لاحقاً مشروعه الحياتي: «دون كيخوتي دي لامانشا». لم يخل نص من نصوصه من علامات هذا المصير الاستثنائي الذي سيحوله إلى أهمّ كاتب عرفته البشرية.
في 1605، أي بعد ثلاثين سنة من سجنه بالجزائر يوماً بيوم، يصدر سرفانتس نصه الخالد «دون كيخوتي دي لامانشا»، الذي لم يؤسس فقط لجنس سيصبح بعد قرون سيد الأجناس الأدبية كلها، الرواية، ولكنه أسس كذلك للسيرة الذاتية كفنّ مستقل في الكتابة، إذ نجد في رواية دون كيخوتي الشعبية صدى كبيراً لحياته الخاصة في جزائر نهايات القرن السادس عشر، إذ خصص لذلك العديد من الفصول التي يتماهى فيها مع تجربته التي حولته وأعادت بناءه، من متطرف ديني مناصر للحروب الدينية، إلى رجل متعقل في كل شيء ومتسامح إلى حد كبير. وسيلته المدمرة ضد أعدائه: السخرية والتهكم.
تحتاج اليوم نصوص سرفانتس العظيمة إلى إعادة قراءة وتأمل دقيقين، تضع الجهد العربي الذي استفاد منه هذا الكاتب العبقري باعترافه هو نفسه، في المكان الذي يليق به. لكن هذا لا يكفي، فهناك علامات وظلال تستحق المعالجة. صدى النصوص السردية العربية واضح ويستحق الاهتمام. هناك نظام أدبي أو ما نسميه اليوم شعرية خاصة في الكتابة الأدبية السردية، في العنونة، وفي العتبات، وفي الخواتيم، والجمل البدئية والختمية، والتخييل، نجدها في أغلب النصوص السردية، ابتدعه العرب القدامى من خلال تجاربهم المميزة منذ القرن العاشر حتى بداية الانهيار المملوكي والعثماني والاستعمارات الحديثة، وكتبوا نصوصهم على منواله. لا يمكن أن يكون ذلك كله محض “وقوع الحافر على الحافر”، وصدفة عابرة.
التجربة القاسية علمته كيف يجعل من المتوسطية سلاحه القوي ضد القهر والظلم والأفكار المسبقة، ويصبح مدافعا عن “الموريسكيين” الذين كانوا يتعرضون وقتها لأبشع حملات الطرد المنظم بالخصوص في فترة الملك فيليب الثاني في سنة 1609، والتي كلفته رقابة صارمة من محاكم التفتيش المقدس التي شكت في انتسابه إلى ثقافة الإسلام بعد خمس سنوات من العلاقة مع أهلها وطالبته عندما عاد إلى إسبانيا بوثيقة “نقاء الدم” التي تثبت بأنه لا ينتسب إلى أية جهة يهودية أو إسلامية وأنه لا يوجد في سلالته العائلية جد من هاتين الديانتين. فكتب رائعته “دون كيخوتي دي لامنشا” الذي أطر ثقافته ووعيه ومنظوره للمتوسطية. فصل “الأسير” من رواية: دون كيخوتي دي لامانشا، يجسد بقوة هذه التحولات.
لنا اليوم أن نحتفظ بسيرفانتس الأول، المحارب بقوة وغطرسة باتجاه التصلب الديني الأعمى الذي أفقده ذراعه ونتحمل تبعات الخراب الذي ينام في الأفق بكل وسائله الفتاكة اليوم. ولنا أيضا أن نحتفظ بسيرفانتس الذي تحول عميقا عندما تعرف على المجتمع الجنوبي الذي حل به أسرا، وخرج منه بمسبقات أقل، وبثقافة أوسع وبرغبة جامحة في معرفة الآخر أكثر.