فضاءات

الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب عبر “أثير” عن الرِّوايَة العَرَبِية؛ التّهْجِين والتّوْطِين

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير-الروائي العربي واسيني الأعرج
لا نعرف قيمة ما نملك عربيا. مقولة تظل ثابتة حتى تتغير رؤية العربي لنفسه وللعالم الذي يحيط به.


على الرغم من الصعوبات التاريخية والثقافية والسياسية، فإن للرواية العربية ذاكرة حية تستحق الاهتمام النقدي والبحث الجاد. فقد استطاعت، ليس فقط أن تستدرج الجنس الغربي في مكوناته المعروفة، ولكن أيضا أن تطوره وتوطنه بحيث أصبح يستوعب المجتمع، والتاريخ العربيين، بدون تنافر كبير. أصبح فيها بعد أن كانت فيه، حتى ولو فرض ذلك كله نقاشا جديدا. لم يعد جنسا غريبا بشكل مطلق، وأصبح من الصعب الحديث فقط عن جنس وافد بدون إدراج التحولات البنيوية العميقة التي غيرت جزئيا أو كليا، عمقه. فمنظوماته التكوينية أدرجت، في الكثير من نماذجها، الميراث القصصي العربي الشبيه بالميراث العالمي في عمومه، على الرغم من عمليات البتر الذاتي التي تمت تاريخيا، وتعرض لها ذلك الميراث لأنه ظل رهين الفترة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية وحمل بعض سمات الأولى على الرغم من رفضه الثقافي والنظري لها. الاختلالات البنيوية في هذا الموضوع تحديدا ستظهر لاحقا بشكل واضح، عندما حاول الجنس الروائي أن يجد له تاريخا يتكئ عليه. على الرغم من أن الآخر الذي كان بعيدا ومفصولا، وربما عدوا أيضا، أصبح في فترة ما بعد الكولونيالية، جزئيا في الأنا، ومحركا إيجابيا لها؟ لها، ومتأثرا بها، من خلال بعض ما أنجز من روايات وفنون تمت تحت هذا السقف. وهو ما أطلق عليه مصطلح الخلاسية أو التهجين . مصدر ذلك، هو أن كوكبة من مثقفين من بلدان إفريقيا وجزر الكرايبي، أو تلك التي تعرضت لاستعمارات زمنية طويلة، الذين قبلوا بفكرة التهجين، لا يشعرون مطلقا بضرورة نقد التاريخ الثقافي الاستعماري، ولا يرفضون المسألة التهجينية ويعتبرونها محصلة تاريخية إيجابية يجب الاهتمام بها، والاحتفاء بها كغنى وليس كمعطل ثقافي في التهجين الأدبي. لأن الآخر في لحظة من لحظات التاريخ، وعلى الرغم من غلبته العسكرية والثقافية، لم يجد أن ضررا من التأثر بالثقافة العربية أو الشرق العظيم الذي شيده لاحقا قطعة قطعة، وفق أهوائه وحاجاته الثقافية، فأنتج نصوصا خلاسية غرفت من معين الثقافات العالمية، ومنها العربية. لنا في ألف ليلة وليلة نموذجا حيا في هذا الميراث الذي فرض نفسه على الآخر حتى أصبح مكونا من مكونات سرديته ومخيالها. يكفي أن نذكر في هذا السياق دون كيشوت لميغيل سرفانتس، في البحث عن الزمن الضائع لمارسيل پروست، الليلة الثانية بعد الألف، لتيوفيل عوتييه، ومائة عام من العزلة لغارسيا ماركيز، وجورجي أمادو وغيرهم من الذين نقلوا الذاكرة العربية والإسلامية التي بترناها من ذاكرتنا السردية بفعل قسري مسبق وديني، باتجاه ثقافاتهم، ووجدان شعوبهم، لدرجة أن شكل هذا النص واحدة من أجمل اللحظات الإنسانية التي يؤثر فيها الضعيف، في القوي من خلال نماذجه الأكثر شيوعا وتأصلا. المهزوم ثقافيا وحضاريا يؤثر في المنتصر. هذا يذّكر بالفترة الرومانية التي عندما انكسرت آلتها العسكرية، لم تجد أمامها إلا الثقافة اليونانية التي حولتها إلى مادتها القاعدية التي انطلقت منها. فوجدنا أنفسنا، من خلال ألف ليلة وليلة، في زمن التثاقف الذي يعني الغني، حيث تنتقل الكتابة بسلاسة، بدون اعتراف مطلقا بالحدود الفاصلة بين الأمم. وهو ما سيعطي لهذه المؤثرات الروائية كل قوتها وحضورها عالميا، بدل التحول إلى تابع ثقافيا من خلال فعل المثاقفة البائس الذي يكتفي بالانصياع للنموذج المهيمن. عربيا، العكس حدث العكس، فقد ظل هذا النص يتيما في مجتمعه الشرقي الذي أبدعه بفضل غنى مخياله، لم يهمله فقط ولكنه حاربه بالحرق.
بعد أكثر من مائة سنة من الممارسة الروائية نستطيع أن نستعيد الأسئلة المعلقة ونبحث في الذاكرة الروائية العربية الجريحة، الذاكرة البنيوية، بمنظور جديد. وحتى لا نكون عدميين، نستطيع أن نقول إن الكثير من المعضلات المرتبطة بالجنس وتوطينه، حُلت بشكل واضح، من خلال منجز الأجيال المتعاقبة، المحملة بذاكرة، صنعتها الممارسة الأدبية الأولى، من خلال الفعل المثاقفاتي، ومن خلال الميراث الشعبي الذي استلهمته، من حكايات شعبية، وقصص ديني، دون أن تذهب نحو النصوص العالمة الحاملة لبذور السرد الروائي. تلك مساحة ظلت بكرا للأسف، مع أنها كان يمكن أن تكون ذاكرة الرواية العربية. فقد ظلت الأنماط الأدبية الراقية التي أنتجت منذ القرن العاشر الميلادي مهملة، من رحلات متقنة الصنع والحكاية، وممارسات أدبية وفلسفية وغيرها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه تاريخ الرواية العربية المخفي الذي لم يجد عموما من يخرجه من الظلمة. أعتقد أننا وصلنا اليوم إلى درجة من الوعي الروائي عربيا، تسمح لنا بالعودة إلى هذه الذاكرة المفقودة على الرغم من توفر النصوص، ومعرفة واختبار مخزونها. أن نهتم بها من أجل أن نضعها في سقف الاستمرار والخلود والتجاذب مع الرواية العالمية، والإضافة أيضا، بعد أن أصبحت الرواية العربية جزءا من المشهد العالمي، ولو بشكل خجول. فقد تجاوزت المعضلات الأولى التي تصحب عادة نشوء الأجناس، أو التأسيسات الأولى من ضعف بنيوي وتركيبي ولغوي، وتقني، كاختلاط الأجناس، لأن الحدود والفواصل غير واضحة وتتداخل أحيانا فيها بشكل جلي مما يثقل الكتابة والقراءة، فنجد الشعر يصحب الخطابة والسرد، في علبة موحدة اسمها الرواية. هناك ترديد لغوي غير متساوق مع الجنس الجديد، والثرثرة اللغوية التي لا تعني الشيء الكثير من ناحية البنية السردية التي تتطلب منطقا وعقلا واضحا واقتصادا فعليا بعيدا عن الغنائية المبالغ فيها، إضافة إلى هيمنة الدرس الأخلاقي والمجتمعي الذي يفترض ألا تعيد الرواية من حيث هي جنس المنطَقَة والعقل، إنتاجه بأدواته ولكن بوسائلها الفنية الخاصة. وهو ما منع الرواية العربية حتى اليوم، من أن تجد مسالكها العالمية والإنسانية. لابد إذن من مقاربة حقيقية ذات نفس عالمي تظهر فيها اللحظات الفاصلة التي حكمت الرواية العربية وحددت مفاصلها التاريخية والجمالية، ولا نكتفي بالاحتفالية التي لا علاقة لها بالنقد، ولكن بالرضى العام الذي طبع العقلية العربية، في غياب السؤال النقدي المحرج الذي يعيد إلى الواجهة المكونات الثقافية الأساسية بما فيها الديني. الهدف المرصود لذلك في النهاية، هو الحفاظ على الرابط الثقافي بين الأجيال وبين الثقافات العربية المتعددة التي تخترقها العلائق التناصية المترتبة عن الاستعمارات المختلفة أو حتى بدون ذلك، أي كنصوص حرة بحكم التعدد الثقافي الإنساني. العالم العربي ليس خارج التجاذبات العالمية من حيث التأثير الثقافي. وهو ما تولدت عنه الكثير من الأجناس على رأسها الرواية كما ذكرنا في مستهل هذ الحديث. نستطيع طبعا، في هذا السياق، الحديث عن الأشكال الأولى التي هيأت سرديا، على الأقل تاريخيا، للميراث الإنساني وأغنته، بينما نفرتها مؤسسة السرد العربي المحكومة بأسس دينية. وهو ما يمكن أن نسميه اليوم ذاكرة الرواية العربية الغائبة، أو المرحلة البدئية في ظل القطيعة المفروضة وغير المبررة مع النصوص التي غيبها العقل المحدود جماليا، كألف ليلة وليلة ببنيتها السردية المتقدمة جدا، والحكايات الخرافية التي تتجلى فيها الأساطير الغنية ولا تظهر إلا قليلا في الثقافة العالمة، الرحلات التي نشأ في عمقها حس المغامرة الروائية التي لا ينقصها الشيء الكثير لكي تضاهي روايات المغامرة العالمية، مثل رحلة ابن جبير التي توفرت فيها العناصر الكبرى للتشويق الروائي على الرغم من أنها تتحدث عن تجربة عاشها ابن جبير عندما ذهب إلى الحج من غرناطة، رسالة الغفران التي اعتمدت حالة تكاد تكون فوق عقلانية، زيارة المعري لدهاليز الآخرة. ارتكزت على المعراج في مرتكزاته القصصية الشعبية التي لا ترى مانعا في ارتقاء البشر نحو العوالم الأخرى وفق منطق تحدده الثقافات المتوارثة ومنها الثقافة الدينية في استيعاباتها الشعبية، كما حدث ذلك في رواية أمريكا الجنوبية (اللاتينية) إذ حينما سئل كيف جعل بطلته تطير أجاب لأنه ببساطة، في ثقافتنا البشر يطيرون . حي بن يقضان كسيرة فلسفية التي كانت وراء جزء مهم من المخيال الإنساني والعالمي ، السيرة الهلالية التي أدرجت الميراث الشعبي بقوة في سردها القصصي وهنا الحديثة عن التغريبة وليس التاريخ، وغيرها من النصوص التي تشكل الذاكرة المرفوضة أو المغصوب عليها التي لم يكن ينقصها الكثير لتصبح نصوصا روائية متكاملة وكبيرة أو شبيهة في سياق مساراتها السردية الخاصة، كما حدث لرواية أمريكا الجنوبية . القطيعة التي فرضتها النهضة المبتورة مع هذه الذاكرة عزلتها كليا واسترخصت نصوصها التي كان يمكن أن تشكل قاعدة روائية توطن سرديا النموذج العربي. فقد أجهضت النهضة أو ما سمي كذلك، مشروعا سرديا عظيما ومتنوعا استمر قرونا متتالية، منذ القرن العاشر. ربما كانت هذه اللحظة الجريحة هي الأساس الصعب والقاسي لتجربة ستكبر بقوة في علاقة تثاقفية ولم تحقق النقلة المثاقفاتية القادرة على خلق أسس توطين الجنس بقوة. هذه العقلية التي أرخت للرواية والحداثة اكتفت بالعلاقة ذات الاتجاه الواحد مع الغرب. أي أنها رمت في مهملات الذاكرة عشرة قرون من الممارسة السردية العظيمة التي تبنتها الثقافات العالمية بشكل كبير لتطوير ميراثها التخييلي، وأهملناها نحن، بل وكرهناها واعتبرناها زوائد يجب التخلص منها. حتى تاريخ الرواية لم يكلف نفسه عناء التعمق والبحث والإجابة عن الأسئلة المغيبة. يمكننا أن نجادل طبعا في كون نصوص الذاكرة المجهضة ليست روايات، ونحن أيضا لا نقول بهذا، ولكن لا أحد ينرع عنها صفة السردية الراقية والتخييل العظيم. أشكال سردية محايثة وقوية، تنتظم فيها الحكاية بشكل دقيق وواضح. وكان يمكنها، لولا عمليات البتر القسري، أن تتطور، وتفتح أمامها أبوابا كبيرة للتطور، ليس فقط بوصفها أهم الأجناس الأدبية المحايثة للنموذج الغربي، ولكن لأنها أجناس مختلفة كان يمكنها أن تحدث انقلابات كبيرة في الجنس نفسه. وأن تسهم أدبيا في ارتقاء وتوطين الجنس الروائي الذي استطاع تتبع لحظات ارتقاء وانحدار الوجدان العربي بتوصيفه ثقافيا وحضاريا واجتماعيا وإنسانيا، من خلال نماذجه الأدبية العالية التي اخترقت المحلية وضاهت العالمية، وفرضت نفسها زمنيا حتى بعد دفنها تحت أطنان سنوات النسيان. آن للدفين ان يستيقظ حتى لو بدى تاريخنا الروائي غريبا بين أسسه التاريخية ومآلاته. بين أساس منسي وجريح، وحاضر صنعه الغرب في كلياته حتى أصبحنا ندور في حقبة ما بعد الكولونيالية، في دائرة النموذج المترسخ والمفروض.


Your Page Title