الروائي العربي واسيني الأعرج يقدم عبر “أثير” قراءة في الرّواية العُمَانية الفائزة “تغريبة القافر”

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير- الروائي العربي واسيني الأعرج

ظلت عمان بلدا عربيا، ولمدة طويلة، على “الهامش” على الرغم من المخاض الإيجابي الحاصل فيها. أمام المركزيات الشامية أو المصرية أو المغاربية في السنوات الأخيرة، إلى أن حدثت الطفرة التي جعلت عُمان تحت الأضواء بفضل أدبائها الموهوبين. شيء عظيم ما يحدث إبداعيا، وروائيا تحديدا، يستحق تأملا جادا لأسبابه.
فجأة ظهرت كاتبة كبيرة، جوخة الحارثي، تفوز بجائزة مان البوكر العالمية (للنص الأجنبي 2019) أمام نصوص عالمية كانت مرشحة لهذه الجائزة، على عملها “سيدات القمر” (2010)، ثم بشرى خلفان برواية دلشاد/ سيرة الجوع والشبع، (2021) التي أخطأت البوكر بإنش واحد، لكنها حصلت بعد أقل من سنة على جائزة كتارا. واليوم يفوز العماني زهران القاسمي بالجائزة العالمية للرواية العربية “بوكر”. وسبق أن فازت عائشة السيفي بجائزة شاعر المليون، دون أن ننسى منى حبراس ومحمود الرحبي اللذين فازا بجائزة السلطان قابوس، في وقت سابق. وهناك هدى حمد التي تستحق كل الاهتمام، تجربتها لا تقل قيمة عمن ذكرناهم في هذا السياق، وتجربة سليمان المعمري والروائية التي ترسخت على مدار السنوات كواحدة من أهم التجارب العمانية والعربية.
لا يمكن أن يكون ذلك كله وليد الصدفة. لا صدفة في مثل هذه الظواهر. هناك أرضية سرية، أو غير مرئية، أخفتها الأسماء العربية اللامعة، كانت تشتغل في الخفاء لتجعل من هذا الجيل الجديد والمليء بالرهانات العظيمة، أنبل وريث لجهود الأجيال السابقة التي مهدت له الطريق إبداعيا.
يأتي فوز الكاتب الشاب زهران القاسمي بالبوكر ليؤكد أصالة التجربة العمانية وتخطيها لكل حواجز التوزيع وضيق دائرة الدعاية الأدبية من خلال رواية تصيب بالدوار والدهشة والسؤال الذي لا نخرج من الرواية إلا وهو يقتفي خطانا كالسيل الجارف: مات سالم في النهاية أم لم يمت؟ لماذا هذه النهاية المعلقة؟ هل هي مجرد لحظة عابرة داخل الأسطورة، حيث الحياة والموت يتوازيان في دوامة تبادلية للأدوار وفي صراع شرس وأبدي ضد طبيعة جافة وليست كريمة دائما، لكنها تنصاع للإرادة والعقل والخرافة أيضا.، أم هي شيء آخر تؤكد على ابدية الحياة والموت؟
عندما التقيت بزهران القاسمي، قبل أسابيع قليلة في بغداد، لم أكن أعرفه إلا من خلال روايته الأخيرة التي تلقيتها كهدية ثمينة في معرض الشارقة. سألته هل هو صاحب رواية “تغريبة القافر” (دار مسكلياني 2023). قال نعم ببعض الخجل. قلت له “رواية ساحرة وجميلة، جعلت من أسطورة الإنجاب السحري من صلب الموت، والموت المربك، مادتها الأساسية. أنا بصدد الكتابة عنها بالكثير من الحب.” ثم دخلنا في احتمالات البوكر، ووصلنا إلى نتيجة جميلة أحبها: “المهم في كل هذا أن الرواية أصبحت مرئية في عالم كل الأشياء الجميلة فيه مخفية أو مطمسة. بل وتردم وهي حية، يكفي البوكر هذا في أنها تجعل من التجربة الشبابية التي تنشأ داخل هذا الخراب العربي، تملك كل إمكانات الشيوع والتطور والمنافسة. فوز أي رواية بجائزة كبيرة يحمّل صاحبه (ته) بعد لحظة الزهو والفرح مسؤوليتين، الاستمرار والخلق الجديد. من دون ذلك تنطفئ جدوة الإبداع. عندما نراجع خرائط الجوائز العربية الكبرى وأسماء الفائزين، في الشيخ زايد، كتارا، البوكر، جائزة الإبداع العربي وغيرها، لا نجد الكثيرين ممن بقوا في استمرارية إبداعية، وكأن الجائزة كانت قاتلة.
يضعنا الروائي زهران القاسمي في خضم اللعبة الرواية منذ البداية التي تستند إلى الأسطورة الشعبية التي أصبحت اليوم جزءا من تصنيع الفعل السردي الذي يجعل الروائي يتفادى واقعية الأحداث التي كثيرا ما حولت الكاتب إلى مجرد كاميرا راصدة لحركة المجتمع. الأسطورة هي الفعل التخييلي بامتياز، النابع من القاع المجتمعي الذي يمنح الرواية قوة وقدرات تعبيرية غير متوفرة في السرد الواقعي المباشر.، وفي خضم حالة وجودية تتعلق بالماء الذي يمنح الحياة ولكنه يمنح الموت أيضا. بؤرة الحكاية/ الرواية كانت الماء وأساطيره. الماء هو مآل كل شيء حي. لكن في عالم الماء لا شيء دائم ومؤكد. كل ما نظنه مسلمة في حياتنا وتاريخنا ليس إلا سلسلة أوهام لأن العالم أكثر تعقيدا مما نتصوره.
تستيقظ القرية على فجيعة. لا أحد يعرف سرها. يتراكض الناس في كل الاتجاهات بحثا عن حقيقة الخبر الذي يقول بان شخصا مات غريقا في أحد الآبار العميقة؟ منذ تلك اللحظة البدئية تقودنا الرواية نحو حكاية الموت/ الماء. بسرعة ينجلي الخبر، فليست الضحية إلا مريم بنت حمد ود غانم، سيدة الماء التي فقدت تركيزها قبل أن تدخل مرحلة شبيهة بالجنون الذي احتل دماغها ولم ينفع فيه أي دواء أو مسكن. ولم يكن لها من دواء إلا الماء الحاضر في محيطها والآبار والأفلاج. هناك ترتسم سعادتها ويخف ما بها من معاناة قبل فجيعة النهاية في عمق البئر الذي كان منقذها من الآلام.
موت مريم لم ينه حياتها، فقد منحها استمرارية من خلال ابنتها سالم، الممتلئ بأصداء الماء. بعد موت أم سالم غرقا داخل، بيئة عمانية شديدة الجمال والجفاف أيضا. لغة زهران الجميلة ارتفعت بها عاليا لدرجة ملامسة التراجيدية. لغة بسيطة وليس تبسيطية، Simple et pas simpliste موصلة للمعني بإيحاءات أسطورية أكسبتها دلالات غنية وعميقة. ربما كان لشاعرية الكاتب (فهة شاعر أيضا) الدور الأهم في ذلك. استغل على خزان التعبير الشعري والصور دون أن يخل بسرديته، الأمر لم يفلح فيه الكثيرون من الذين انتقلوا من الشعر للرواية، وهم كثر. هناك داخل هذه الرواية وعي مسبق بالوظيفة اللغوية من خلال التبدلات على مستوى الإجناسي.
مريم ماتت غرقا. لكنها كانت حاملا، كما عرفت ذلك عائشة بنت مبروك خالة الغريقة. حالة غير مسبوقة. هل يُترك الجنين يموت وهو في أواخر تكونه الكامل، أم يتم إنقاذه لأنه كائن حي ومن حقه أن يعيش. فتتخذ بنت غانم قرار فتح البطن في مشهدية قاسية ويُخرج سالم بن عبد الله بن جميل من بطن أمه ليُمنح حياة أخرى بعد عاش الموت قليلا في بطن أمه وسمع الماء الذي كان يسكنها محملا برسالته الصعبة والمهمة.، جعل من ذلك السحر مهنته. اكتشاف الماء في عمق الصحاري ومنح الناس الاستمرار والحياة. فجأة تحول إلى شخص يتشمم رائحة الماء فيحفر الأفلاج والآبار بشق جسد الصحراء الجاف. كان يعرف مساراته السرية التحتية، ويعرف متى يحفر وكيف يحفر، ويجعل الماء يندفع بقوة نحو السماء. يعرف مخابئه بالسماع فقط، ولكن أي سماع؟ فقد ورث شيئا عن أمه ظل يسري في خلاياه. فقدا كانت مريم، صاحبة التطريز الجميل قبل إصابة دماغها، تمد رأسها نحو البئر ليهدأ المها الذي يشبه الشقيقة التي لم ينفع فيها الكي والأدوية.
سالم العاشق والقافر، كما أسمته كاذية بنت غانم، ينسحب فجأة من المشهد القروي بمجرد زواجه من نصرا غازلة الصوف التي أحبها. قيل بأنه وقع في أسر سكان الأرض السفلية الذين سجنوه وقيدوه. هذا الغياب وضع نصرا في مرمى أهلها إذ يطلب منها أن تتزوج من جديد لكنها ترفض كليا. تواصل انتظارها بعزلها في مشهدية أسطورية قريبة من ملحمة هوميروس. بنيلوب وهي تغزل في انتظار زوج طال غيابه. تسمي خيوط نسيجها بأسماء الأفلاج التي حفرها زوجها. يصبح الغزل هاجها للانتظار والحياة. قيل إنه حينما كان يحفر فجّ محسن بن سيف، داهمه صداع غير مسبوق قبل أن يجرفه الماء ويدخل في صراع مع الأسماك العمياء التي كانت تدميه، ويرى أشياء كثيرة هي بين حافتي الحقيقة والتخييل، مثلا سجن قلعة الرستاق حيث كان ينتهي السجناء في حفر عميقة. لا تهم نهاية الرواية المفتوحة سوى أن معركة الماء ستظل مستمرة حتى الأبدية.






Your Page Title