أثير- عبد الرزّاق الربيعي
حين تشقّ طريقك ببغداد صباحا وسط نبض الحياة الذي يتجسّد في ألحان الطبيعة، وأدعية المساجد، وهمس الأشجار، ونداءات الباعة وهم يروّجون لبضاعتهم، لابدّ أن يتسلّل إلى مسامعك صوت فيروز، أيقونة صباحات الإذاعات العربيّة، وهي تغني:
بغداد والشعراء والصور
ذهب الزمان وضوعه العطر
يا ألف ليلة يا مكملة الأعراس
يغسل وجهك القمر
تلك الأغنية التي صدحت بكلماتها فيروز في قاعة الخلد حين زارت بغداد عام 1976م برفقة فرقتها، والأخوين رحباني، ويومها ملأت الأسماع وشغلت العراقيين الذين ردّدوا معها:
عيناك يا بغداد أغنية
يغنى الوجود بها ويُختصر
لم يُذكر الأحرارُ في وطنٍ
إلّا وأهلوك العُلى ذُكروا
يومها كانت الحرب الأهلية اللبنانية مشتعلة، لكنّ لبنان وقف بصلابة، وقد عبّرت عنها ببيت واحد هو :
أنا جئت من لبنان من وطن
إن لاعبته الريح تنكسر
وبالفعل انكسرت الريح الطائشة، وبقي لبنان الحب والجمال وفيروز، وصوتها الذي يعطّر صباحاتنا بشذاه.
لم تكن أغنية(بغداد) الوحيدة التي غنّتها فيروز لمدينة السلام التي بناها أبو جعفر المنصور ثاني خليفة عباسي عام 145 هـ 762م، ففي عام 1960 غنّت (دار السلام) جاء في المقطع الأوّل منها:
دار السلام على الأنسام ألحان
يزفّها طائر والصبح فتّان
يا جنة في الظلال السمر وارفة
نسيمها بالهوى العذري نديان
حييت دجلة والأيام هانئة
تغفو وتصحو على شاطيك أزمان
وكانت هذه التحية لدجلة سابقة على تحيّة الشاعر محمد مهدي الجواهري التي بثّ عبرها لواعج الغربة، عندما كان مقيما في (براغ) المتمثّلة بقصيدته (يا دجلة الخير) التي نظّمها في شتاء 1962م وفيها يقول:
حيّيتُ سفحك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير يا أمّ البساتينِ
حيّيتُ سفحك ظمآنا ألوذ بهِ
لوذَ الحمائم بين الماء والطينِ
وقد استحضرت أبيات هذه القصيدة الخالدة، وأنا أتجوّل في بيته في بغداد برفقة وفد النادي الثقافي الذي يزور بغداد بدعوة من ” بغداد مدينة الإبداع الأدبي التابعة لمنظّمة “اليونسكو”، وقد حوّلته أمانة العاصمة إلى متحف يضمّ مقتنياته.
قبل ذلك زرنا أكثر من معلم ثقافي من معالم بغداد، التي يشقّها نهر دجلة إلى شقّين: الكرخ والرصافة، وردّدنا:
عيون المها بين الرصافة والجسرِ
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وحين رأينا أطراف النخيل استدعينا أبا العلاء المعرّي وقوله:
وردنا ماء دجلة خير ماء
وزرنا أشرف الشجر النخيلا
وبغداد قبلة العاشقين والمغنين والفنانين ودار العلم وبغداد الرشيد ( 184هـ، 800 م) تبقى ملعبا للمجد -كما جاء في أغنية فيروز، و” حاضرة الدنيا وما سواها بادية ” كما قال أحد المؤرخين لتؤكّد هذا حين نراها تنهض من جديد لتغني مع فيروز:
بغداد والفجر بسّام تهدهده
على ملاهيك أحلام وألوان
غد سلام وخيرات جوانحه
كأنّما رشّه في الأرض نيسان