أثير- الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي
محاولة الإقلاع عن الكتابة أشبه بمحاولة الإقلاع عن التدخين، غالبا ما تنتهي بالفشل فيعود المرء إلى سيرته الأولى.
مُذ بدأت جائحة كورونا توقفتُ عن الكتابة الأسبوعية في الصحافة، ظنّا مني أن الشفاء من داء الحبر والورق ممكن مثل الشفاء من الإصابة بفيروس كورونا. بمرور الوقت أدركت أن اللقاحات على أنواعها، ومهما بلغت نجاعتها، لا يمكنها شفاء كاتب من فيروس الكتابة، خصوصا إذا كان مثلي ناشئا على إيقاع الكلمات ورائحة الحبر، عابرا من زمن الكتابة على الورق إلى زمن الكتابة بواسطة الشاشات الذكية التي تكاد تنافس مبتكريها في مقدرتها على أداء وظيفتها وأكثر، وتضع البشرية جمعاء أمام تحديات غير مسبوقة.
واقع الحال أن الكتابة دواء لا داء، مَن يدمن على هذا الدواء السحري لا يعود قادرا على تركه حتى لو خُيّل إليه أو شُبِّه له ذلك. دواء تبدو الحاجة ماسّة إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى، لا لأجل شفاء الذات فحسب بل لأجل شفاء كل ذات، لا لأجل الكاتب نفسه بل لأجل الجماعة التي لا تشفى من أمراضها ولا تستأصل أدرانها إلا متى أعلت شأن الكتابة والقراءة والعلِم والمعرفة. هذه من النوافل، لكن ألسنا نحيا زمنا نحتاج فيه إعادة التأكيد على معظم النوافل والبديهيات والمسلمات؟
رُبّ سائل ما معنى أن نكتب اليوم، والنشر بات متاحا ومتيسرا وفي متناول كل مَن لديه مساحة على وسائل التواصل والشاشات الذكية. الإجابة كامنة في السؤال نفسه، شيوع النشر على هذا النحو يضعنا أمام ضرورة كتابة ما هو مختلف عن الشائع والمُستهَلك في زمن طغيان السهولة وخمول الهمم عن البحث والتدقيق والتمحيص.
قديما قال الجاحظ “المعاني مطروحة في الطريق”.
في معزل عن تفسير المقولة التي كُتب فيها وحولها الكثير، وبعيدا من الجدل حول أسبقية اللفظ أو المعنى، نجد أنفسنا اليوم أحوج ما نكون إلى كتابة المعنى. صحيح أن المبنى أيضا على غير السَّوية التي نريد، لكن المعنى، وهو جوهر كل أمر، يكاد يضيع في خضم اختلاط الحابل بالنابل، وغياب المرجعيات، و”انزياح” السياقات، وتصدي كلِّ مَن يشاء لكلِّ ما يشاء، حتى بات “من حق السخفاء والحمقى والمهابيل أن يكتبوا ما يشاؤون على مواقع التواصل التي ساوت بين المثقف والجاهل. وهذا حقهم ولا أحد يستطيع أن ينازعهم فيه أحد، لكن الحق ليس عليهم مطلقا بل على كل من يهتم أو يعلق أو يرد على ما يكتبون” وفق صاحب “نظام التفاهة” آلان دونو.
السؤال الآن، ليس على مَن يقع الحق في وصولنا كبشر إلى ما نحن فيه. السؤال كيف يستطيع الكاتب المشغول بالمعنى، غير المعني بـ”الترند” وأخواته من المصطلحات السائدة، أن يقول شيئا مختلفا عن ما قيل ويُقال، ويجترح بحبره ولحبره معنى يلائم العصر وتحدياته الهائلة، فلا تكون نصوصه مجرد ألفاظ تبحث عن المعاني المطروحة في الطريق. فالكتابة ليس فقط أن تُبشِّرَ الصابرين على جمر انتظاراتهم بأن الصبحَ قريب، بل أيضا أن تُقرِّبَ هذا الصبح أو تبتكره.
نكتب لا لنغير العالم، بل لنغير أنفسنا أولا، لعلنا أيضا نسهم في تغيير من يقرأ، متى فعلنا يتغير العالم تلقائيًا. والأمل، كل الأمل أن يكون تغييرا نحو الأفضل.
الأسطر السالفة ليست تنظيرا ولا “تفلسفا”، هي مجرد بداية، بداية مع “أثير” التي أعادتني مشكورة إلى الكتابة الأسبوعية بعد انقطاع أشبه بانقطاع النفَس.