أثير – عبدالرزاق الربيعي
حين وقفت مع من رافقني من وفد النادي الثقافي، خلال زيارتنا البيت، بباب بيت الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري بحيّ القادسية ببغداد، الذي حوّلته أمانة بغداد إلى متحف ومركز ثقافي، استحضرت أحداثا ثقافية كثيرة، شهدها هذا البيت الذي تمّ بناؤه أواخر 1971م، وأقام به شاعر العراق الكبير، واستقبل ضيوفه من كبار الأدباء والكتّاب العراقيين، وفي كلّ زاوية من زوايا البيت ليقيم به الجواهري، وأنفاسه:
سَقَي تُربَها مـِن ريقِ المزن هَطَّـالُ
دِيَاراً بَعَثْنَ الشّـوقَ و الشـّوقُ قِتَالُ
وَ ما سّرَّني فِي الْبُعدِ حَالٌ تَحَسَّنَتْ
بِلَادِي أشْهَـي وَ إنْ سَـاءَتِ الْحَـالُ
أُحبُّ حَصَاهـا وَهْـوَ جَمـرٌ مُؤجَّـجٌ
وَ أهْوَي ثَرَاها وَهْوَ شوكٌ و أدغـالُ
ومن هذا البيت غادر العراق 1980م، ليستقرّ في براغ، تفاصيل تحيلنا لحياة الشاعر، فالبيت هو الوحيد الذي تملكه، وبناه على قطعة أرض منحتها له نقابة الصحفيين عام 1962م، وفيه بعض المقتنيات الشخصية، وطاقيته الشهيرة، وتمثال شمع للشاعر، ومكتبة وعددا من صور الشاعر التي تتوزع على جدران البيت، وشاشة مستمرة في عرض قصائده المسجلة عن طريق الفيديو، فضلا عن قاعة صغيرة للندوات الشعرية، وفضاء مفتوح للقراءات الصيفية.
في حديقة تهبّ بها النسائم وتذكّرنا بقول الشاعر:
هَبَّ النَّسيـمُ فَهَبَّـتِ الَأشــــواقُ
وَهَفَــا إلَيْكُـمْ قَلْبُــهُ الخَفّــاقُ
وَتَوَافقـاً فَتَحَالُفاً هُـوَ وَ الأسَـى
وَحَمَامُ هَذا الأيكِ و الأطـواقُ
عَارٌ عَلَي أهْلِ الهَوَي إنْ تَزْدَري
هذي النُّفُوسُ وَ تَشْتَري الأعلاقُ
ذَمَّ الفـراقَ مَعـاشِـرُ جَهَلُوكُـمُ
مِـنْ أجلكم حَتَّـي الفَـرَاقِ يطاقُ
عَمَرتْ بِذِكْرِكُمُ اللَّذيذِ مَجَالسُ
وأزَيَّنَـتْ بِـهَـوَاكُـمُ أسْـــوَاقُ
وعادة تقام في هذا البيت الندوات الثقافية والاحتفاء بذكرى الجواهري ففي كل زاوية ذكرى للشاعر وعائلته.
تذكرت محاولة قام بها صديقي الشاعر الراحل صباح أحمد حمادي لاقتحام عالم الشاعر، كان ذلك عام 1980، وكنا مبهورين بالجواهري، فحين يكتب قصيدة جديدة، نسارع إلى اقتناء أكثر من نسخة من الصحيفة التي تنشرها، ونبدأ بحفظها، وذات يوم كتب الشاعر صباح قصيدة في الجواهري، وأصرّ على إيصالها له، وكنت أظنه يمزح، لكنه فاجأني ذات يوم حين جاءني فرحا، وأخبرني إنه ذهب لبيت الجواهري الكائن في (القادسية)، ولم يكن من الصعب الاستدلال عليه، فحين وصل الحي، سأل عنه، وسرعان ما وصفوه له، فقد كان معروفا للكثير من سكنة الحيّ، وحين طرق صديقي الباب، خرج الجواهري يرتدي (الروب) ويضع على رأسه طاقيّته الشهيرة، وبعد السلام، سأله عن حاجته، فأعطاه القصيدة، فألقى عليها نظرة عاجلة ثم ودّعه، وانقطع خبر القصيدة.
تذكرت فقرة في رسالة بعثها لي د.سعيد الزبيدي يتحدّث فيها عن مرافقته للجواهري عندما استضافته جامعة الموصل في شباط عام 1980م.
وكانت رحلة الطائرة من بغداد إلى الموصل ألغيت، فأنزعج الجواهري، وكاد أن يعدل عن تلبية الدعوة لولا تدخّل أستاذنا علي جواد الطاهر، فأقنعه بالسفر بسيارة رئيس الجامعة.
ومروا به في هذا البيت، وطرقوا عليه الباب فخرج لهم، وخرجت خلفه شقيقته تحمل المصحف، فقبّله ووضعه على جبينه، واتخذ مكانه في المقعد الأمامي، يقول الزبيدي “من مقعدي كنت أسترق النظر إلى الجواهري، فرأيت قصاصة ورق يكتب كلمة في أولها فقط ويكتب القافية في آخرها وكانت تلك طريقة أبي فرات حينما يهجم عليه الشعر، وقد خصني بعد أن ألقى مقطوعته في أم الربيعين بهذه القصاصة، ومطلعها:
أم الربيعين يا من فقت حسنهما
بثالث من شباب مشرق خضل
وأتمها في براغ ونشرت كاملة في ديوانه.
ويعدُّ هذا البيت من المعالم الثقافية البغدادية، وتقام فيه أنشطة، ويستقبل الزوار من محبي الشاعر، منذ أغسطس العام الماضي بعد أن قامت أمانة بغداد بترميمه، تكريما للشاعر.
حين غادرت البيت كم تمنّيتُ لو يحوّل بيت الشاعر أبي مسلم البهلاني في وادي محرم بسمائل الذي سكنه قبل أن يهاجر إلى زنجبار إلى متحف، نظرا لمكانة البهلاني الثقافية، كونه شاعرا ورائدا لصحافة المهجر في زنجبار، وقد أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) ضمن الشخصيات المؤثرة عالميا في عام 2019 بمناسبة الذكرى المئوية لوفاته، تقديرا لدوره الثقافي والإصلاحي، ويمكن أن يتحوّل البيت إلى معلم ثقافي كما هو الحال مع بيت الجواهري ببغداد.