الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي يكتب لـ “أثير” عن وَهْمُ الصُّورَة المُثْلى!

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي

معظمنا واقع اليوم تحت تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وما استجد بسببها من سلوكيات، وما فرضته من تغيّر في طبيعة العلاقات بين الناس. كثير منا بات يتخلّف عن أداء الواجبات الاجتماعية مكتفياً، عوِض الزيارة أو الاتصال الهاتفي، برسالة عبر الواتس آب، أو بإيموجي تعليقاً على هذه المناسبة أو تلك. تقلصت مساحة اللقاء الإنساني المباشر، وغابت السهرات العائلية الحميمة الدافئة، وقلّت لقاءات الأصدقاء وحلقات السمر. ضمن الأسرة الواحدة صار الجميع منكبّاً على هاتفه الذكي يتابع ما يدور في العالم كله، وبالكاد يتبادل حديثاً عابراً مع جلسائه في الغرفة نفسها.

كثيرة هي الإيجابيات التي وفرتها لنا التكنولوجيا الحديثة، ولا شك في كونها سهّلت أموراً كانت إلى الأمس القريب بالغة الصعوبة والتعقيد، لكن، أيضاً كثيرة هي السلبيات المترافقة مع التطور التكنولوجي المتسارع. من أبرز تلك السلبيات وقوعنا جميعاً تحت ضغط الصورة. فالصورة اليوم تكاد تكون أهم من صاحبها. صاحب الصورة نفسه يصدق ما تراه عيناه، رغم معرفته المسبقة بأن الصورة لا تشبه حقيقتها، نظراً لما أصابها من فلاتر وفوتوشوب ولمسات هدفها أن يراها صاحبها بعين الإعجاب والرضا.

سطوة الصورة المثالية، أو الصورة المشتهاة تدفع بالكثيرين إلى نوع من الهوس أو الإدمان. هوس الظهور بأحسن حال وإدمان تجميل المظهر إلى حد الإفراط في “عمليات التجميل” التي تأتي غالبًا بعكس المراد منها، لأن كما تعلمنا مذ كنا يافعين “الزائد خَيْ (أخ) الناقص”، بل تصبح أحيانًا عمليات تشويه وتقبيح لا عمليات تجميل، وكثيراً ما تحمل لنا وسائل الإعلام صوراً لأشخاص أدمنوا “عمليات التجميل” المذكورة فباتوا أشبه بمخلوقات عجيبة غريبة!

وفق علم النفس فإن إدمان “عمليات التجميل” يُعتبَر اضطرابًا سلوكيًا يدفع المصابين به إلى إنفاق مبالغ طائلة لإجراء عمليات تجميلية بهدف تغيير المظهر والشكل الخارجيين، ومع ذلك لا نجدهم سعداء في نهاية المطاف. بل يغدو المصاب، أحياناً كثيرة، كلاعب القمار كلما خسر أكثر انغمس في اللعبة أكثر طمعًا بربح لن يأتي أبداً، وفضلاً عن المشاكل الصحية التي تتسبب بها “عمليات التجميل”، تبدو المشاكل النفسية أكثر ضرراً وخطورة، لأن عدم الرضا عن الذات يؤدي إلى التهلكة، إذ أن كثيرين ممن يبحثون عن الرضا من خلال الصورة الخارجية يقعون فريسة اكتئاب قد يؤدي بهم إلى إيذاء النفس والانتحار.

مبدئياً لست ضد “عمليات التجميل” بالمطلق، ولا أعارض الاهتمام بالمظهر والشكل، ولا أجد ضيراً في سعي الإنسان إلى تقديم نفسه بأجمل صورة ممكنة. بل أذهب إلى حد القول أن في “عمليات التجميل”، سواء كانت للشخص نفسه أو لصورته، نوعاً من الحرية التي لم تكن متاحة سابقاً قبل تطور الطب التجميلي والفوتوشوب التصويري(!)، فالإنسان حرّ في تغيير لون عينيه وشكل أنفه أو شفتيه وإخفاء علامات الزمن من ترهّل وتجاعيد، والقيام بكل ما يجعله أكثر راحة نفسياً. هذه حرية لم تكن متاحة لأجيال وأجيال على مر آلاف السنين، وباتت الآن سهلة المنال خصوصاً لمن يملك القدرة والمال.

ما نناقشه ونشير إليه لا يتعلق بحرية كل إنسان في اختيار المظهر والشكل المناسبَين له. فالحرية الفردية مقدسة خصوصاً متى كانت تعنى بشؤون الفرد نفسه، لكن الذي نقف عنده هو خروج الأمر عن نطاق الحرية الفردية، ليصبح كما أشرنا نوعاً من الاضطراب السلوكي الذي يعتبر نوعاً من المرض الشائع والمنتشر بقوة لدى شرائح كثيرة واقعة تحت سطوة “وهم الصورة المثلى”، وهي صورة لن تبلغ ما تصبو إليه لأن المشكلة ليست في الصورة بل في صاحب الصورة. فالجمال الذي يصبو إليه كل إنسان لا يتحقق من الخارج إلى الداخل، بل على العكس تماماً ينبع الجمال من الداخل لينعكس على الخارج. متى كان المرء جميل الروح والقلب والفكر صفا محياه وشعّت عيناه ونثر الجمال في كل مجال.

ليس هذا الكلام لغواً ولا إنشاءً، إنه حقيقة يمكننا اختبارها كل يوم من خلال علاقاتنا مع نحب وننظر إليهم بعين الرضا، وكما قال الإمام الشافعي: “وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ
وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا”.


من المهم جداً أن ننظر بعين الرضا إلى مَن نحب ونهوى، الأهم أن ننظر بعين الرضا إلى أنفسنا وذواتنا. نعمة الرضا تغنينا عن الكثير من العناء واللهاث وراء سراب الصورة. أن تكون صورتنا جميلة في أعيننا أهم بكثير من البحث عن جمال متوَهَّم في أعين الآخرين.

يقول الكاتب الألماني هرمان هيسه(1877 – 1962): “ما أصعب أن يُحشَر الإنسان في ذاك الممر الضيق الفاصل بين عصرين”. فكيف الحال إذا كان الإنسان المعاصر محشوراً اليوم في خضم تحولات هائلة وفي ممر أضيق بين الحقيقة والوهم، بين ما هو ممكن وما هو مستحيل، لاهثًا طوال الوقت كي يصنع صورة مهما كانت لن تكون طبق الأصل.

Your Page Title