أثير – د. رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يمثل قانون التعليم المدرسي الصادر بالمرسوم السلطاني (31/2023) القوة الناعمة لنجاح منظومة التعليم المدرسي، وبوصلة التوجه التي استطاعت أن تقدم لمجتمع الطلبة مساحة أوسع من الخيارات والبدائل، بل اتجه إلى ترسيخ الحس التعليمي وعبر ضمان تكيف الطالب مع مستجدات التعليم ومتطلباته، ولذلك فالمتأمل للقانون يجد أنه وسع من دائرة الخيارات وأعطى الطلبة مساحة أكبر في الاستفادة من فضاءاته وهو الأمر الذي نقرأ فيه روح الإنتاجية والتكامل، وفقه البناء وصناعة التغيير، وليس صحيحا ما يقال من أن التعليم بتغليظه العقوبة على الطلبة في مواده يعكس حالة غير تربوية سيكون لها تبعاتها على الشأن التعليمي وعلى مستقبل تعلم الطلبة، ذلك أن هذه العقوبات جاءت متناغمة مع ما وفرته لائحة شؤون الطلبة وإدارة السلوك الطلابي وضوابط شؤون الامتحانات من معطيات شكلت بمثابة رصيدا داعما لهذا التوجه، كما أن ما ورد من محظورات في المادة (48) ليس حالة خاصة بقدر ما هو توجه وطني يقع على جميع المخاطبين، لأن الغاية من القانون تحقيق الأبعاد النفسية والفكرية والاجتماعية والقانونية والتربوية التي لا تتحقق إلا في ظل التزام بها، وإيمان بأهميتها، واستشعار بقيمتها في حياة الطالب، ولأن في التساهل فيها مدعاة للخروج عن النظام، والتأثير في القرار، وضياع للعدل والمساوة وتكافؤ الفرص التي لا تتحقق إلا بتطبيق القانون والالتزام بأحكامه وهو ما أكدته المادة (94).
لقد رسم قانون التعليم المدرسي مساحة أوسع للطالب ليشعر بموقعه وأهمية وجوده والغاية من دراسته، وليقدم بدوره نموذجًا للطالب المنتج المتفاعل والمتفائل والذي ينتظر منه المجتمع والأسرة والوطن أن يكون أحد لبنات النجاح وبصمات البناء، وعبر ترسيخ القناعات الإيجابية في فقه المتعلم وسلوكه والتزامه وتعميق المسؤولية الفردية والاجتماعية المشتركة حوله وتوسيع الخيارات التعليمية للطالب، ذلك أن دور الطالب انتقل من كونه المنفذ للسياسات التعليمية والأوامر والتوجيهات فحسب إلى دور المشارك في صناعتها والمساهم في صياغتها، وأن يقدم من الأفكار والخبرات والتجارب ما يؤسس لصناعة المحتوى التعليمي، كونه جزءًا من كيان المدرسة، وتعمل المجالس الطلابية بدورها في تقديم البدائل وتوسعة الخيارات وتوفير النصح للمدرسة والمعلم في كل ما يؤدي على تحقيق تعلم عالٍ الجودة، يشارك فيه الطلبة، ويتحاور فيه الكل، ولا تقتصر المسألة على إبداء الرأي في المناهج والخطة الدراسية بل تشمل تطوير الأداء التعليمي، باعتبارها حق من حقوق الطلبة وفق المادتين (43، و44)، ولأن القانون أشار في المادة (87) إلى أن تطوير المدرسة وتحسين الأداء مسؤولية المدرسة، فإنها هذا الأمر لا يعفي الطلبة من المشاركة بل يضعهم في قائمة المسؤولية في تقديم الأفكار والخبرات والمبادرات والأطروحات التي تساهم في تحسين الأداء.
من هنا تمثل قناعات الطلبة الإيجابية حول نفسه وانطباعاته عن شخصيته ونقده المستمر لذاته، وانطباعاته حول الآخرين، والأفكار التي يؤمن بها والمسلمات التي يتعايش معها والصورة الذهنية التي يسقطها حول واقعه من واقع المشاهدات اليومية أو حول مستقبله، أهمية كبيرة في بناء مسار تعلمه، وتعكس مستوى الأريحية التي يمكن أن ينطلق من خلالها ويتفاعل في ضوئها مع واقع البرامج والموجهات التي تتخذها المدرسة، وكلما استطاعت المدارس أن توفر مادة ثرية حول الطالب شخصيته ومهاراته وقدراته واستعداداته وأفكاره وتفكيره، وتمتلك مفاتيح دراسة هذه الشخصية كلما استطاعت أن توفر أساسيات التعلم التي يحتاجها الطالب وتقلل من الفاقد السلبي، باعتبارها موجهات تساعد المدرسة على تحديد مسار تعلمه، ومساعدته على تخطي العقبات أو المنغصات التي باتت تؤثر سلبا على استقراره الدراسي، وانطلاقته نحو تحقيق تعليم عالٍ الجودة، وبحثه عن شغف المنافسة وحرصة نحو الوصول إلى مستويات أعلى في التحصيل والمتابعة والانتظام الدراسي والانضباط السلوكي والاهتمام بعادات الدراسة ومهاراتها، لتظهر مستويات القوة في أدائه، والدافعية في عطائه، والاستمرارية في تفوقه، والمهنية في إنجازه، وبما ينعكس إيجابا على سلوكه التعليمي، والجدية في التعاطي مع تعليمات أعضاء الهيئة التعليمية بالمدرسة، وحرصه على تقديم مشروعات وأنشطة عملية مساندة تصقل مهاراته وتبني لديه اتساعا في أفق الفهم والتحليل الدراسي والرصد لمتطلبات المحتوى التعليمي، بالشكل الذي يتيح له فرص أكبر للتعلم النشط واستثمار أفضل لوقت التمدرس وتقليل نسبة الفاقد التدريسي الناتج من اشغال الموقف التعليمي بقضايا جانبية، كأن يكون قد أخل بالنظام العام داخل المدرسة، أو عطل أداء المدرسة لنشاطها التعليمي، وقد حافظ قانون التعليم على اعتدالية هذا السلوك استنادا إلى المادة (94) وما أقرته من جزاءات لو عرقل الطالب مسار التعلم.
عليه كانت مسألة تأصيل قناعات الطلبة الإيجابية حول تعلمهم ودور القانون في ترسيخها، وتوجيه أدواتها لصالح بناء ذات المتعلم والثقة في قدراته، وخلق الحافز لديه، وتمكين الدوافع من إحداث التحول في سلوكه التدريسي وممارسات التعلم الذكي كنتاج لهذا التحول في أفكاره والإيجابية في قناعاته والضبطية في أفق التفكير وموجهات التطوير لديه عبر البحث المستمر عن التميز وإثارة أنماط التفكير الخلاق، من المواضيع ذات الأهمية في حياة المدرسة بشكل خاص، لتعاملها مع قدرات ومشاعر وأفكار واستعدادات فكرية مختلفة، وتعايشها مع مواقف نفسية واجتماعية وأمزجة متغايرة في بيئة التعلم، مما يعني أن القانون بما فصل فيه من معادلة التوازن في قواعد الانتظام الدراسي والانضباط السلوكي أراد تكوين جاهزية استثنائية لدى المتعلم في إدارة الظروف والمواقف والاحداث التي يصادفها سواء في تعامله مع أقرانه أو تفاعله مع معلميه أو توافقه الفكري مع المحتوى التعليمي والمنهج الدراسي ذاته، وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التي تتولد لديه حول تحصيله الدراسي وعن ذاته والمهارات والقدرات التي يمتلكها، ومستواه العلمي ومستقبله الوظيفي وغيرها، بالشكل الذي يضع الممارسة التعليمية، أمام واقع جديد على المدارس أن تتعامل معه بمهنية وتتفاعل معها في إطار توافقها مع طبيعة المتعلم وظروفه النفسية والاجتماعية، لذلك وضعت المادة (45) اعتبارا وأهمية للجوانب الفكرية والصحة النفسية والبدنية والاجتماعية وخدمات التوجيه والإرشاد التي تقدم للطالب باعتبارها استحقاق يحصل عليه الطالب في إطار تحقيق المدرسة لمهامها، بما يمنحه فرص التغيير وإعادة صياغة سلوكه الشخصي بطريقة تؤصل التقدم والاهتمام في ذاته وتقلل من ردات الفعل السلبية أو حوائط الصد النفسية الناتجة عن تغيُّر قناعاته حول وضعه الدراسي أو أن تقدم له برامج إثرائية وفق حاجته خارج ساعات العمل الرسمي كما ورد في المادة (66)، مما يعني أن على المدرسة أن تبحث عن مسارات وبدائل متعددة تدعم تعلم الطلبة وتحيي فيهم قوة الضمير ومنهج التوكل وتحمّل الصدمات وإزالة الشكوك والأوهام والمخاوف والإيحاءات السلبية والانطوائية في ظل إستراتيجيات المدرسة وخططها التنفيذية وبرامجها التوعوية والتثقيفية والإثرائية المقدمة للطلبة وهو ما يمكن فهمه من المادة (62) في سبيل تكوين ثقافة مدرسية إيجابية وبناءة من شأنها توفير بيئة وفرص تعليمية محفزة.
أخيرا يبقى قانون التعليم المدرسي في تفاصيله، الرهان الوطني للتحول الشامل في التعليم المدرسي وضمان جودة تعلم الطلبة، ويضع الممارسين سواء كانوا أعضاء الهيئة التعليمية أو كذلك بيئات المدرسة ولجان الإشراف المتابعة والتقييم التي تقوم بها الوزارة والمديريات التعليمية بالمحافظات أمام مسؤولية تعزيز الاتجاهات الإيجابية، وبناء منصات الحوار التعليمي، والتنويع في أدواته وإشراك الطالب في منظومة التفاعل والإنجاز وتمكينه من إدارة تعلمه بذاته، وتعميق جوانب المسؤولية لديه، في إطار توظيف البحث العلمي والابتكار والريادة، في صناعة البدائل وإنتاج الحلول لمشكلات التعليم وتوسيع خيارات الطلبة المهنية والتقنية والفنية والأكاديمية لربطه بسوق العمل واقتصاد المعرفة، وبالتالي أن تسهم هذه الموجهات في وضع الطالب كشريك إستراتيجي في صناعة التغيير، ورسم الإيجابية لشخصيته الناجحة، وإيجاد برامج توعوية مخططة تنفذ بصورة منهجية مثيرة للطلبة ومشوقه لهم في الأبعاد النفسية والاجتماعية والصحية والمهارية، وفق برنامج عمل واضح المعالم يشارك الطلبة في صياغته وتحديد محاوره وآلية تنفيذه، ويستهدف تعزيز الثقة بالنفس وصناعة التفكير الإيجابي، والتخطيط للمستقبل، وتفعيل دور الإرشاد النفسي والاجتماعي، وتمكين الطلبة من التعامل مع المواقف وإدارة المشكلات الموقفية، والحدس والفراسة بالمستقبل، وتعزيز فرص الابتكار والريادة وتوجيه المواهب، والتخطيط الجيد في تحديد مسارات الأنشطة التعليمية، ودعم النماذج الإيجابية من القيادات الطلابية وإخراجها بالشكل المطلوب داخل مجتمع المدرسة.