أثير- الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي
غالبًا ما تُطرَح علينا أسئلة مفادها ألا يزال الشِّعر ضروريًا للإنسان، أو عاملاً مؤثرًا في حياة الناس؟
في رأيي، الذي يحتمل بعضا من غلو الشعراء، ما يزال الشِّعر من أكثر الفنون تأثيرا. حتى أولئك الذين يظنون أن لا علاقة جيدة تربطهم بالشِّعر يصلهم الشِّعر ويؤثر فيهم بطرق غير مباشرة من خلال الأغاني والأفلام والروايات وسواها. الشِّعر مادة أولية خام كامنة في الحياة نفسها، وفي الوجدان الإنسان العميق، رافق الكائن البشري منذ بدأ يتلمّس ويتحسّس وجوده الروحي والعاطفي والفكري الأبعد من الوجود المادي والجسدي. وإلا ماذا نسمّي ملحمة جلجامش ونشيد الأناشيد والمعلقات وكل ما تركه أسلافنا الأوائل في الذاكرة الجماعية والتاريخ البشري؟ الشِّعر من مكونات الحياة الأولى، وما القصيدة بأشكالها المختلفة العمودية والتفعيلة والحرة إلا وعاء من أوعية الشِّعر الكثيرة؛ لذا من البديهي والطبيعي أن أؤمن بالشِّعر وأبشّر به وأعدّه من أرقى وسائل الدفاع عن الإنسان والانتصار لحقه في الحياة الحرة الكريمة.
تمر أزمنة ومراحل تتراجع فيها فنون وتتقدم أخرى، لكن الفنون العميقة، كما الشِّعر، ذات الصلة بجوهر الوجود الإنساني لا يمكن لها أن تذوي وتموت. دليلنا على ذلك كيف ما يزال شعراء كبار مضت قرون على رحيلهم حاضرين في الوعي والذاكرة، وما تزال قصائدهم تسكن الوجدان الجمعي لشعوبهم. هل يمكن أن نذكر العرب من دون المتنبي، والإنكليز من دون شكسبير، والفرنسيين من دون بودلير وهوغو؟ ألا نرى كيف ما يزال محمود درويش حاضرًا في الوجدان الفلسطيني؟ وكيف صدحت حناجر المصريين بقصائد أحمد فؤاد نجم في ميدان التحرير لحظة ثورة ٢٥ يناير؟ وكيف تظل قصائد مظفر النواب تداعب مخيال العراقيين وتحرّك مشاعرهم؟ وقصائد أحمد مطر يتم تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي كالعقاقير المحرّمة والممنوعة؟ والأمثلة لا تُعد ولا تحصى على امتداد المعمورة.
ولو تصفحنا مواقع التواصل الاجتماعي لوجدنا ما لا يعد ولا يحصى من الأسماء التي تهوى الشِّعر وتحاول نظمه وكتابته. صحيح يختلط الحابل بالنابل والغثّ بالسمين، لكن رغبة كل هؤلاء في أن يكونوا شعراء، في معزل عن التقييم النقدي الآن، تدل على المكانة التي ما يزال يحتلها الشِّعر في الوجدان الإنساني. نعرف أن ما يطفو على السطح لا يرقى إلى ما نصبو إليه ونحلم به، لكن الأصل أن الشِّعر يبقى رفيقا للإنسان ومعبّرا عنه مهما اختلفت الظروف وتبدلت الأحوال.
الشِّعر جزء من الحياة، يتراجع دوره قليلا، يتقدّم قليلا تبعا للظروف التي تمر بها كل أمة، لكنه أبدا لا يغيب ويظل فاعلا ومؤثرا. في كل لحظة مفصلية من حياة وطنهم يستعيد اللبنانيون قصائد الأخوين الرحباني بصوت فيروز، الصوت الذي رافق الناس بشاعريته في عزّ لحظات الحرب دموية وعنفا، وكان ضمادةً لجراح وبلسما لأوجاع. وما الذي كان يحمله إلينا ذاك الصوت سوى الشِّعر في أبهى تجلياته لدى الأخوين وسواهما ممن أعطوا فيروز عصارة قصائدهم.
لا يمكن فصل حال الشِّعر عن حال الفنّ والأدب عموما، ففي لحظات التقدم والازدهار ووجود مشروع مُبشِّر وجامع تنهض الفنون والآداب وتنهض معها الذائقة العامة. جميعنا يعرف كم غنت أم كلثوم وفيروز وسواهما من قصائد عصماء أسهمت في ارتقاء تلك الذائقة. في المقابل، في لحظات التراجع والانحطاط يغدو مسار الذائقة العامة انحداريا، فتتراجع الفنون الراقية وتتقدم الفنون التجارية والاستهلاكية كما هو حاصل الآن، لكن هذا المسار لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. تمرّ البشرية حاليا بمخاض عسير، ودمويّ في كثير من محطاته، لا بد أن تنجم عنه ولادة جديدة ومتجددة، تحمل بشائرَ خلاصٍ مما نحن فيه، وهنا تكمن أهمية الشِّعر خصوصا حين يُبشّر بالأمل والخلاص ولا يكتفي بالندب والرثاء، فالكتابة عموما (والشِّعر خصوصا) ليس فقط أن تُبشِّرَ الصابرين على جمر انتظاراتهم بأن الصبحَ قريب، بل أيضا أن تُقرِّبَ هذا الصبح أو تبتكره.
أحياناً كثيرة لا يبدو تأثير الشِّعر مباشرا وجليا، لأن القصيدة الحقة تتسلل مثل النعاس إلى النفس، وتترسب في أعماق الوعي. وغالبا ما يكون الأثر الأولي للشعر أثرا فرديا، بمعنى أنه يصلنا أولا كأفراد قبل أن يولّد نوعا من الأثر الجماعي، خصوصا متى كان صادرا عن شعراء لم يركنوا فقط إلى مشاغلهم الفردية، بل انشغلوا أيضا بالهموم الجماعية وعبّروا عنها وبشّروا بالخلاص منها.
يبقى الشِّعر ويبقى الشعراء ما بقي الإنسان وما بقيت الحياة، ما بقي الحب والشوق والتضحية والفداء، وما بقيت المشاعر الإنسانية على اختلافها وتضادّها. ولئن لم نقرأ الشِّعر في القصيدة، نسمعه عبر أغنية راقية، نعثر عليه بين أسطر رواية، نراه في مشاهَد فيلم سينمائي، والأهم نلقاه في ثنايا الحياة نفسها، في لحظات اللقاء والوداع والفرح والحزن، وفي كل ما يعتمل داخل النفس البشرية، فالشِّعر ليس فقط قصيدة تُكتَب أو كتابا يُنشَر ويُقرأ. الشِّعر نمط حياة، أسلوب عيش، نظرة إلى الوجود، وطريقة تعامل مع الآخرين والكائنات.
الشِّعر حياة.