أثير – مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري
نلج اليوم عالم سيدة سورية أبدعت بالكلمات وصنعت لها ملكوتا جميلا، إنّها الشاعرة عبير الديب، أصدرت عديد الكتب منها “تاء تأنيث العاصفة”، كما شاركت في مختلف التظاهرات الشعرية في أقطار شقيقة وصديقة مثل العراق وتونس وإيران والأردن مؤخرا، وقد عرفتها في وطني حين زارته في مهرجان القصيد الذهبي وأجريت معها حوارا لفائدة أثير، وها أنا اليوم أطلعكم على محتوى إصدارها الأخير.
هي قبل كلّ شيء، كلّ شيء يدور حولها، فهي قطب المعنى ومداراته، هي القصيدة والهوامش الملقاة بجانب النصّ، فمنذ أوّل قصيدة تجدها واقفة هي بفستانها وحمامها المتأرجح على حبال غسيلها، ولك سيدي القارئ أن ترسم وحدك في خيالك جمال نقشها ورهافة قماشها واترك لها عند وسادتها وردة وقبلة، فتلك هي عبير الديب الشاعرة السورية كما عرفتها على المباشر في زيارتها إلى وطني تونس، وتلك هي الطفلة الكبيرة التي يستأذنها في الدخول إلى حديقتها المعنونة بـ “تاء تأنيث العاصفة”.
كما قلت في البداية، لا يمكن لأيّ كان أن يقرأ هذه الشاعرة دون مواجهة الذات الكاتبة التي تصرّ على أنّها ملك نفسها في قصيدة ثانية بعنوان “مفارقة مُرّة”، وتلحّ داخل هذا المتن الشعري بكونها حرّة، فعلت وتفعل كلّ أفعال الحياة حسب مشيئتها، وتظلّ على هذه العقيدة إلى نهاية القصيدة فتباغتك بخاتمة (بعد أن سلّمتَ لها بالملكية الكاملة والتامة على الذات) تقول فيها الحقيقة التي يخافها الشعراء ألا وهي تبعيّتها بحبل متين وقوي لقدرها، كما أنّها موقرّة بذلك، فكم تسخر منّا أقدارنا وهي تسطر لنا حيواتنا:
“أنا ملك نفسي والصراخ يريحني
لكنّه قد يوقظ الأولاد والجيران
والحي القريب وضيعتي ومدينتي
ورفات جدّي والمسيح المنتظرْ
أنا ملك نفسي..
واكتشفت بأنّني
ما كنت يوما ملك نفسي
يا لسخرية القدرْ”
هي طفلة كبيرة كما أعرفها، فهي عاشقة للحياة وقد بيّنت ذلك في أكثر من قصيدة، ولكنّها تنظر عميقا في الواقع المعاش وتحفر فيه بالكلمات وبالأسنان والأظافر، فمثلا حين نقرأ قصيدة (خارج عدسة السياب) نجد الشاعرة متسلحة بوعيها ونضجها لكي تكتب ما تراه امرأة في الواقع القاسي، فتنقل لنا صور حزينة ومهينة لوضع الأنثى في وسط مجتمع ذكوري، يستغل ظروف كلّ امرأة تحتاج للعمل بيمينها حتّى لا تأكل بثدييها، المهم عبير الديب تصوّر لنا المشهد المزري المهين حيث تُنتهك كلّ كرامة المرأة الشريفة الراغبة في العمل لكي لا يجوع أطفالها المنتظرين لعودتها:
“في السوق رائحة الحياة تقوتها
لتواجه الطاغوت من أقدارها
بحثت لتجني رزقها بيمينها
فجنت من الخيبات ملء يسارها
في كلّ باب شارب مفتولة
تتصيّد العبرات خلف خمارها”
قصائد عبير الديب قريبة من الذات تدور حولها وتستلهم منها كلّ المواضيع، هي تكتب عالمها بما فيه من فرح وشجن، وأحيانا تدين مظاهر سيئة وتضخّم ذاتي مثلما فعلت في قصيدة “نرسيس” حيث تهاجم بقوة نموذجا إنسانيا يعشق نفسه دون سواها، تعالوا نقرأ بعض الأبيات من هذه القصيدة:
“نرسيس أخطر صاحب
إذ حين يعلن حربه يبدو جميلا
يبدو جميلا حين يطعن
حين يلعن
حين يكذب كي يكون هو القتيلا
يبدو جميلا حين يشكو للضحيةْ
أن سيل دمائها قد نال من أطراف ثوبه
يبدو جميلا حين يشكوها لربّه”
هكذا نكون قد ولجنا العالم الشعري لعبير الديب، آملين لها مزيدا من الإبداع، خاصة أنّها ما تزال في مقتبل العمر ومتوهجة في حقل الكلمات وتعد بإضافات شعرية وإصدارات جديدة.