
باريس/ الطيب و لد العروسي
رجل الاستشراق – 1: مسارات اللغة العربية في فرنسا
رجل الاستشراق – 1
: مسارات اللغة العربية في فرنسا
تعد المدرسة الفرنسية الاستشراقية من بين أخصب مدارس الاستشراق، فلقد لعبت مدرسة اللغات الشرقية الحية دورا هاما، حيث تم إنشاؤها في باريس عام 1795، برئاسة المستشرق الفرنسي المشهور سلفستر دي ساسي، الذي يعد بمثابة عميد المستشرقين في أوروبا، نشطت هذه المدرسة قبل و بعد الحملة الفرنسية على مصر، و أنجزت تخصصات مختلفة، كما اهتمت بتدريس اللغة العربية ، لكن المفارقة هو أنه في السنوات الأخيرة بدأ تدريسها يضمحل ، رغم كثرة المقبلين عليها، فكيف كان مسارها؟ وما هي مواطن الضعف و مواطن القوة فيها؟ للجواب على هذه الأسئلة و غيرها، نقدم في هذه القراءة الطبعة الثالثة من كتاب “رجل الاستشراق: مسارات اللغة العربية في فرنسا”، للباحث و الأكاديمي المستشرق دانيال ريغ Daniel Reig، ترجمة الدكتور إبراهيم صحراوي، الصادر في الجزائر عن منشورات دار الآفاق، و يتكون من 270 صفحة، و يحتوي على “مقدمة الطبعة الجزائرية”، و “مقدمة المترجم”، و مقدمة المؤلف، و خمسة فصول.
تعد المدرسة الفرنسية
الاستشراقية من بين أخصب مدارس الاستشراق، فلقد لعبت
مدرسة اللغات الشرقية الحية دورا هاما، حيث تم إنشاؤها في باريس عام 1795، برئاسة المستشرق الفرنسي المشهور سلفستر دي ساسي، الذي يعد بمثابة عميد المستشرقين في أوروبا، نشطت هذه المدرسة قبل و بعد الحملة الفرنسية على مصر، و أنجزت تخصصات مختلفة، كما اهتمت بتدريس اللغة العربية ، لكن المفارقة هو أنه في السنوات الأخيرة بدأ تدريسها يضمحل ، رغم كثرة المقبلين عليها، فكيف كان مسارها؟ وما هي مواطن الضعف و مواطن القوة فيها؟ للجواب على هذه الأسئلة و غيرها، نقدم في هذه القراءة
رجل الاستشراق: مسارات اللغة العربية في فرنسا”
دانيال ريغ
Daniel Reig
بدأ الاستشراق الفرنسي منذ عدة قرون وتزامن انتشاره مع توغل الاستعمار الفرنسي خاصة في دول المغرب العربي وبعض دول المشرق ، و في بعض الدول العربية و الآسيوية عامة، واختص بالدرجة الأساس في العلوم الإنسانية : اللغة، الأدب، التاريخ، الإسلاميات، الأنتروبولوجيا، فقه اللغة و غيرها من المدارس ذات العلاقة بالشأن الاجتماعي، و كان الكثير من المستشرقين يطّلعون على العالم العربي من بلادهم، و منهم من انتقل و عايش المجتمعات التي درسها، و لكن بمخيّلة و أهداف مدروسة مسبقا، كان يرسمها أو يجعلها كنتائج ــ و إن كانت غير موضوعية ــ يوهمنا بأنه وصل إليها، هذا ما يشير إليه الدكتور إبراهيم صحرواي مترجم الكتاب حينما يقول: ” وإذا كانت الحروب هي الواجهة العسكرية للصراع بين الشرق و الغرب، فإن الاستشراق هو الواجهة الفكرية لهذا الصراع و خلفيته أيضا، فقد كان المستشرقون هم القوة العلمية التي ساندت القوة العسكرية الغربية التي واجهت المسلمين على مر العصور، و لقد مرّ الاستشراق بفترات تميّزت كل منها عن سابقتها في المنهج و طريقة العمل، و إن كانت الرؤية و الأهداف في الواقع لم تتغيّر” ( ص.10)، و هذا ما يؤكده مؤلف الكتاب، وهو مستعرب فرنسي معاصر، درّس في جامعة السربون و في مدرسة الدراسات الاجتماعية العليا ، حيث وجه كتابه إلى جانب معين أو محدد هو الاستشراق الفرنسي ، وهو يحدّد مصطلح استشراق الذي بدأ يستعمل ” منذ 1838 للدلالة على الشغف و الافتتان بأمور الشرق أثناء الفترة الرومانسية” ( ص.17). لكن كانت تستعمل قبلا في كتابات بعض الباحثين و هي تشير إلى الشرق، و لا تشير إلى التخصّص، ولقد أشار المؤلف في أكثر من مرة إلى أن خطأ الاستعمار الفرنسي الأساسي هو “بلورة” فكرة مسبقة عن المجتمعات ــ في أغلب الأحيان ــ لا علاقة لها بالواقع الموضوعي خاصة لدى من ساعد في تكريس الاستعمار و توسيع رقعته، فأصبح هو الآخر يرى العالم عبر ما يقدّمونه له من أبحاث و نتائج، أو بالأحرى، هم، أي المستشرقون، كانوا في خدمته حتى أنهم ذابوا في رؤاه و راحوا يخدمون مصالحه مطوعين نتائج أبحاثهم لأوامره و “انشغالاته”، مما أبعد أبحاثهم في الكثير من الأحيان عن التركيز العلمي الحقيقي و عن الموضوعية. لأن الشرق بالنسبة إليهم ” مخزن واسع للأشياء مهما كانت طبيعتها، و الرسوم و الكتب الأصلية و البطاقات و حكايات الأسفار” ( ص.25).
الحلقة الثانية
كما أنه اهتم باللغات الشرقية لأن ” علاقاتنا التجارية مع البلدان الناطقة بها موجّهة إلى ازدهار جديد، لكي يعيّن لكل منها أستاذ خاص يمكن أن يقدّم معلومات أكثر و عناية أكبر في هذا المجال” ( ص.31)، فمن هنا نرى أنه يضاف إلى الدافع الاستعماري الدافع التجاري ، حيث جُند للغايتين مجموعة من المستشرقين ليكتشفوا مجاهل الشرق، وأن نظرتهم بدأت تتسع مع اكتشاف “كامل الكرة الأرضية، و تكتشف في الوقت نفسه جزءا من قوانينها العلوية، و بدأت ذهنية الحروب الصليبية لديه تفقد حدّتها، و مع فلاسفة عصر التنوير بدأ إدراك جديد للشرق في الظهور” ( ص.27).
هكذا يواصل المؤلف بحثه في الفصل الثاني بعنوان ” اللغة العربية: الأسطورة و الواقع” و هنا يتطرّق إلى صعوبة هضم و غموض عبارة اللغة العربية، لأنه وجد نفسه أمام لغات، فماذا يتعلم، لغة القرآن التي هي “شكل من أشكال العربية التي كانت مستعملة في الجزيرة العربية؟ ” ( ص. 44) ، و التي تطورت كلغة مستقلة، أم اللغة المحكية، يعترف المؤلف بأن اللغة العربية “هي إحدى أقدم اللغات الكونية، لكن ثقل المعجم الناتج عن هذا القدم يشكّل عائقا يضايقها في عملية التقدّم و الازدهار من جديد، و يقيّد التواصل الجيّد للدول العربية،” ( ص.46).
إن تعاقب المدارس الاستشراقية أدّى إلى الوضع التي تعيشه اللغة العربية في فرنسا اليوم، و هو وضع غير مرضي، لأنه مع مجيء الجيل الثاني و الثالث تبيّن أن المنهجية المستعملة متجاوزة و أنها أهملت أو أبعدت بشكل أو بآخر المقبلين عليها، الأمر الذي أدّى إلى صعود جمعيات و مساجد افتتحت أقساما لتعليم اللغة العربية، ما دام عدد المنتسبين إلى الأقسام التي تسيرها وزارة التربية الفرنسية يتراجع سنة بعد أخرى، و كان المؤلف استشرافيا لأنه رأى ” إن حال تعليم اللغة العربية في مؤسسات التعليم الثانوي و مؤسسات التعليم العالي في فرنسا غير مرض رغم التقدّم المحقق منذ خمسة عشر قرنا، سواء كان ذك على مستوى مضاعفة المناصب أم على مستوى تكوين الأساتذة” ثم يواصل ” لكن وسائل نشرها تبقى ناقصة رغم الاهتمام التي أبدته السلطات العامة حتى السنوات القليلة الماضية” ( ص.48).
لا زال هذا الوضع مترديا، و فرنسا لم تستدرك الوضع، مما فتح المجال لبعض الدول العربية إلى العمل على تعليم أبناء مهاجريها ، لكنها وجدت صعوبات جمة في التعامل غير المجدي مع المؤسسات التربوية الفرنسية التي لم تتعامل معها بطريقة واعية ، هذا الوضع دفع بالمهاجرين إلى البحث عن بدائل لتعليم أولادهم فكانت الجمعيات و المساجد عبارة عن ملجأ لهم ، و هذه أحدى النتائج التي ترتّبت عن الفوضى أو الهشاشة التي عوملت بها اللغة العربية رغم وجود جاليات مهمة من المشرق و المغرب لم تحسن فرنسا التخطيط لإدماجهم و إيجاد خطة بيداغوجية واضحة المعالم للسهر على تعليمهم لغتهم الأم، لأنه ” لا يوجد اهتمام حقيقي باللغة العربية في فرنسا ( و ربما لن يوجد أبدا). و الواقع أننا نسجّل في هذه الفترة ( الستينيات) عداء واضحا للعرب و بعض الرفض لثقافتهم، و هذا رغم وصول عدد كبير من الأوروبيين العائدين من الجزائر “الأقدام السوداء” و الذين كان عليهم على الأقل، الاهتمام باللغة العربية، إن لم تكن هذه العودة هي السبب في ذلك العداء ” ( ص.49).