أثير- عبدالله العريمي
قلةٌ هم الكرام القادرون على أن يكونوا حرّاساً للقيمِ والمبادئ حتى الرمقِ الأخير، ينادون ويعملون بها، تلك هي الحكمة، أن تضعَ حُسنَ القولِ والعملِ في موضعه، لم يقرأ الفلسفةَ الإغريقية، ولم يكن باحثاً في تاريخِ الأدبِ العربي أو محاضراً في إحدى الجامعات، ولكن يُمكن أن ننسبه إلى أهمِ كُتبِ العلو المعرفي المكوِّنِ للإنسان، فقد كان يَملكُ من الغنى وسموِ النفس ما يجعلُ منه فارساً نبيلاً في عصرٍ يحاولُ أن يسرِّبَ منه النبلَ والشهامةَ والرجولة، إنه مبارك بوناشب الفارسي أحدُ أهم القابضين على ما تأصلَ عليه دينياً واجتماعياً وإنسانيا، رجلٌ دافع عما أورثه الأسلافُ من عاداتٍ وتقاليد، ودرَّبَ نفسه على التسامحِ رغم سرعة غضبه، وعلى قلةِ الكلام رغم ازدحامِ الكلمات في داخله، ولستُ أدري كيف يتوحَّدُ النقيضان في عالمه الداخلي، فقد كان صارما كالسيف ورقيقا كالعطر، وإيماءةٌ واحدةٌ منه كانت كفيلةً بأن تقولَ كلَّ شيء وأن تكون أكثرَ بلاغةً مما تضمهُ كتبُ البلاغةِ والبيان،
رجلٌ أدركَ أن الإنسانيةَ جوهرُ الدينِ ، وأن معنى الوجودِ هو عطاءُ الإنسانِ لأخيه الإنسان، فقد نصّبَ نفسه في فترةٍ ما محامياً للدفاعِ عن حقوقِ الآخرين دون أن يرتجي منهم عطاءً دنيوياً، مستمتعاً بقدرةِ الكلماتِ المدفوعةِ بالحبِّ والواجبِ الإنساني في الانتصار لحقوقِ الناس، قلبه الممتلئُ بالرحمةِ يقوده إلى كفالةِ اليتيم ليحميه من غلبةِ الزمانِ ويجعلُ السلامَ امتداداً ممكناً لهم مع يقينه أن الله في عليائه هو من يدبرُ الأمرَ وأن الفعلَ لا يكون إلا بمشيئةِ الله، وخبايا كثيرةٌ رفعت قدسيةُ الموت الستار عنها، لست أدري كيف يمكنُ أن تتسعَ الكلماتُ لهذا العمقِ الإنساني الكبيرِ الظاهرِ في صورةِ هذا الرجلِ المترفِ بالصفاتِ العاليةِ والمُسرفِ في العطاء، وهذا هو ما يجعل من رحيله خسارةً فادحةً ليس على مستوى أهله والمدينةِ فقط، لأني على يقينٍ أن الإنسانيةَ أحوجُ ما تكون إلى مثله، وأن الحياة ممكنةٌ حين تتعدد صورةُ الوالد مبارك بوناشب أكثر لتكون الفوارقُ بين الناسِ أقل، نعم نحن جيلٌ وصلنا متأخرين ووقفنا على الخط الفاصلِ بين ما كان من بساطةِ الإنسانِ العاليةِ وتكافله الصافي وبين حاضرٍ يحاولُ أن يمسكَ آخرَ ما تبقى من ميراثِ الأسلافِ الذي ينثرهُ الكرامُ في زوايا المدينةِ وحاراتِها وأسواقها، علَّه يُعيدُ الإنسانَ بسيطاً وواضحا كما كان، الوالد مبارك بوناشب كان أحدَ حراسِ ذلك الإرثِ القيمي والفني الكبير لمدينة صُور، كان مقدوره أن يرزحَ تحت ثقلِ سيفه وترسه، وأن يقفزَ عاليا في الهواءِ قبل أن يستقرَّ مهيباً واقفاً على قدميه منسجماً مع الإيقاع، تلك كانت طريقته في ترويضِ العالمِ وحفظِ كرامةِ الحياة، وها هو يستقرُّ الآن بين يدي حليمٍ كريمٍ بعد أن ترك الحياةَ – بيتَ الكرامةِ الواسع – ليكون جاراً للنجومِ ويوارى جثمانُه في الزاويةِ الأقربِ للمسجد، ويكون جاراً أبدياً له، عاش حميداً مبللاً بذكر الله، جاعلاً من المحبةِ جهةً، ومن الدعاءِ قافلةً تمشي وراءك كلما هممتَ بالرحيلِ عنه، ليس من السهل على الإنسانِ أن يتقنَ الحبَّ الخالصَ في هذا العالمِ إلا إن استطاعَ الانتصارَ لجوهرِ ومعنى وجوده، وها هو يترجّلُ عن صهوةِ الحياةِ طيباً مباركاً قبل أن يفتحَ رمضانُ باباً لصوته المبحوحِ العابرِ من المآذن ليختلطَ بذرات الهواء وهو يصدحُ كعادته في كلِّ عام بالتهليلِ والتسبيح فتشربُ ذراتُ الهواءِ ذلك وتحتفظُ به في ذاكرةٍ ما، ليلُ رمضان ابتداءً من هذا العامِ لن يتسعَ لصوته، لأنه الآن في عالمِ التسبيحِ والإجلالِ العظيم، ولكن صوته سيظل يتسربُ من النوافذِ والأبواب، وذكراهُ تفوحُ من كلِّ زاويةٍ وركن، نعم إن الحياةَ متسعٌ للخسارةِ والنقصان، ولكن يمكنها أن تكون أيضاً وثيقةَ مرورٍ كريمٍ بهذا العالمِ المؤقت، وهذا ما فعله الوالد مبارك بوناشب بكرمه السمح الممهورِ بالإنسانيةِ الخالصة، وقدَّمَ برهاناً مؤكداً على ذلك قبل رحيله واستقراره في أبديةِ الحبِّ المطلق، وعزاؤنا في لحظاتِ الحزنِ الكبير هذه أنه الآن في عالمٍ أفضل بين يدي رب كريم، فـ لله ما أخذ ولله ما أعطى.
وداعا أيها الفارس الأصيل المحب لوطنه والمنذور للإنسان