فضاءات

الحلقة السادسة الضابط الثالث: حفظ العقل

الحلقة السادسة الضابط الثالث: حفظ العقل
الحلقة السادسة الضابط الثالث: حفظ العقل الحلقة السادسة الضابط الثالث: حفظ العقل

يكتبها: بدر العبري

العقل عند الفقهاء هبة الله تعالى ليكون مناط التّكليف، والحفاظ عليه بتنميته بالمعارف والعلوم، والابتعاد عن كلّ ما يزيله أو يضعفه بالمسكرات والمخدرات وغيرها، وتطبيق العقاب على متناولها.

والله تعالى أمر في مئات الآيات بتحكيم العقل، فمثلاً عبارة أفلا تعقلون تكررت ثلاث عشرة مرة، وعبارة لعلّكم تعقلون تكررت ثماني مرات، وعبارة لا يعقلون تكررت إحدى عشرة مرة، وعبارة لقوم يعقلون تكررت ثمانيّ مرات، وعبارة إن كنتم تعقلون تكررت مرتين، وعبارتا ما عقلوه ونعقل تكررت مرة واحدة، وعبارة يعقلون وتعقلون تكررت مرتين، وهكذا دواليك.

كذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالسّير في الأرض، باطناً وفضاءً، لكشف أسرارها، وتسخير سننها، حيث قال: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقال: (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ).

بجانب أنّه أمر بالتّفكر في الكون واعتبره عبادة حيث قال سبحانه: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

بل حتى الآيات القرآنيّة ذاتها مع يسرها وسهولتها أمر الله سبحانه وتعالى بالتّدبر فيها، قال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).

كما أنّ القرآن نهى عن تعطيل العقل وعليه حذّر من التّسليم لثلاثة أمور مثلاً:

الأمر الأول: موروث أهل الكتاب وانتشار التّحريف بينهم، حيث قال سبحانه: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

الأمر الثّاني: التّقليد والاستسلام للفكر الموروث حيث قال سبحانه: (أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ، بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ).

الأمر الثّالث: عدم التّأكد من صحة الخبر، حسب الآلة المتاحة، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).

كما أنّ الله نهى عن كلّ ما يعوّق العقل معنوياً؛ أيضاً نهى عن كلّ ما يعوّق إعمال العقل مادياً كالخمور، ويدخل فيه المخدّرات بطبيعة الحال، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

ومع وضوح هذا المقصد إلا أنّه –للأسف– حدث له من التّطبيقات السّلبيّة، ومنه إقصاء الآخر مباشرة تحت مسميات متعددة، سابقاً أهل البدع والزّندقة والإلحاد، وسياسياً الخوارج والنّواصب والرّوافض، واليوم أصبح العقل تهمة وذماً، والنقد تطاولاً وتعالماً، فوسعت دائرة التّعزير، وشاع شعار «كتب حذّر منها العلماء«، وقد يفعّل –لو فتح المجال– حد الردّة اليوم من أوسع أبوابه!!.

والعقل طاقة كبيرة في الإنسان يجب أن تفعل في الحقيقة في كشف الوجود من جهة ونقد الذات من جهة أخرى، وتعطيل قيمة العقل في الحقيقة يساوي تماما تعطيل قيمة البصر والسمع وباقي الحواس.

والله تعالى أعطى الإنسان قيما كبرى يدرك ذاتها بعقله، ويدرك آثارها كذلك عن طريق هذا العقل، ثم أمره بالسير في الأرض والكون والتفكر فيهما، وتسخير سننها في الوجود لمصلحة هذا الإنسان ومدى عيشه واستغلاله لهذه الحياة.

لذا في الحقيقة لا يوجد خوف من العقل وفتح المجال له، بل الخوف من غلقه وإقصائه لأنه يتولد بهذا الخرافة والكهانة وما ينتج عنها من أكل أموال الناس بالباطل، واستغلال حاجتهم تحت أي مسمى، وأخطر ذلك تحت مسمى الدين، لينتفع فئة من الأحبار والرهبان والعلماء بطاقات الإنسان، ولهذا قال سبحانه مبينا التوكيد بأن والكثرة بكثيرة والاستمرارية بالفعل المضارع المؤكد باللام في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.

وكذلك ما يتعلق بالساسة والنظم الاجتماعية: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.

وعليه نخلص من هذا وجوب استغلال العقل بفتح المجال له من جهة، وتحريم ما يضره من جهة أخرى.

Your Page Title