رشـا فاضـل
الى د. رمزي أبو شقرا
حسنا إذن .. إذا كنت مصّرا الى هذا الحد، لنصنع لك (بورتفوليو) ..فاليك هذا البورِتفوليو الأبيض الذي حاكته لك تلميذتك البدوية التي تباهي بمحبتك الصحب أينما حلّت ..
كان يوما صيفيا لاهبا ذلك الذي طلبت منّا الست (زهراء) أن نكتب نصّا انشائيا عن الحرب .. رحت حينها بكامل طفولتي التي تجاوزت السن القانونية آنذاك، فكتبت لها بفصاحة الحرب عن (السلام ) ! ذلك لأننا نكتب عما فقدناه ، لا عما وجدناه ! ولك أن تتخيل ما الذي ستكتبه تلميذة الصف الثالث متوسط عن السلام الذي لم تشهده في ذلك الوقت .. وحتى هذا الوقت المتأخر من العطش ! لا تجزع ستواجه الكثير من علامات التعجّب، والاعجاب، والأسى، والتآسي، والفرح .. في هذا (البورتفوليو الأبيض) .. الم تقترحوا في خاتمة مؤتمركم (اللغوي ) أن نبتكر علامات تنقيط جديدة تليق بمقتضياتنا اللغوية المعاصرة ؟ لكم أن تسعدوا إذن.. فقد قمت بابتكارها في هذا النص (التقييمي)) بامتياز !
حين قرأت الست (زهراء حسن هاشم) نصّي آنذاك جاءت في اليوم التالي مندهشة به ايّما دهشة .. وقد كنت (وللأمانة العلمية ) مندهشة لدهشتها فأنا لست الا عابثة كبيرة خارج السياق.. ولا أسعد الا بجلوسي على الهامش، فمنه اراقِب، ولا أكون في مرمى البصر لا البصيرة ..
تلك المعلمة الحقيقية حملت المرآة أمامي، وأرتني وجهي الآخر الذي لم أكن أعرفه حينما قالت لي أمام الصف ( رشا كاتبة نص رائع ) وهمّشت لي على دفتري الأخضر الصغير
(بديع يارشاوي) أما هذه الايقونة الضاحكة المتكئة على حافة السطر فهي وجه قلبي الذي أطلق ضحكته في المدى .. منذ ذلك الوقت المتأخر من الطفولة .ولك يامعلمي إن ارتأيت أن هذه الايقونة لن تربك الدورة الدموية، ولن تساهم في صعود الضغط، أو تؤذي حنجرة (اللغويين) اثر الصياح، فلك أن تبشّرهم بابتكاري هذه الإشارة التنقيطية (الناقطة ) .
لفرط ذكائك الذي أثق به كثيرا، فأنت الذي يفهم بالتلميح لا التصريح لن يتبادر الى ذهنك أن تسألني، و ما علاقة التقييم العلمي بذلك ؟ لكني مع ذلك سأتحدث عن هذه العلاقة الاشتراطية في نجاح أي مشروع، وأوّله التعليم .. إذ أنني لا أفهم كيف يمكنني / يمكنك أن تكون معلّما دون أن تكون المحبة حاضرة تؤثث لنا الصف بترافتها ؟
في تلك المدرسة البعيدة الغائرة في خضرتها، والقابعة في قلب الحقول (ثانوية الكندي ) كانت تجربتي في التعليم الثانوي .. أول شيء عملته حين دخلت الصف إني طلبت من الطالبات أن يزحن الدفاتر، والكتب من الرحلات البائسة، وأن نخرج الى الساحة الخارجية وكانت كبيرة .. قلت لهم لنكتب على الأرض، وتحت الشمس الشتائية الوارفة .. لنكتب الدرس على الأرض وبالطبشور الملون .. لن تتخيل كم لوّنا وكم غنينا وكم ضحكنا وكم فهمت الطالبات من تلك المادة الجافة التي اسمها ENGLISH GRAMMER
منذ ذلك الصباح تحول درس الإنكليزي أحبّ الدروس للطالبات .. أنا أحفظ حتى هذا اليوم أسماءهن .. أعرف أسماء من يحببن أو من كنّ يحببن.. أحفظ أحلامهن عن ظهر بلاد كان لزاما عليها أن تفعل ذلك، وأن تحميها لا أن تبدّدها ..
وحين طلبوا مني بحكم المساعدة أن أدرّس مادة التاريخ .. قبلت على مضض .. ووجدتني كما الآن، وكما سأكون .. وجها لوجه معهم ومع طفولتي التي عبثا حاولت التملّص من دائرتها .. كان يفترض بي في ذلك الفصل أن أحدّثهنّ عن نابليون بونابرت .. وحروبه، وأمجاده، وهزائمه، وإجرامه ..
وجدتني أغلق الكتاب وأقول لهنّ : هل تعرفن نابليون؟
أجبن بصوت واحد تقريبا : قائد حربي
فأجبتهنّ : بل عاشق عظيم !
ضحك البعض منهنّ .. والبعض الآخر غطين وجوههن خجلا بضحكة كتومة.. فيما رحت أمارس سعادتي، وأمدّ لساني لكل ما قاله المشرف/المنسّق في جلساته التلقينية البرمجية ..
رحت أحدثهن عن جوزيفين، وكيف كانت ترش العطر لكل مكان كانت تغادره وتتواجد فيه ليبقى نابليون أسير عطرها في قلب الغياب .. وبعدها تطورت المناهج عندي حتى رحت أعلمهن طرائق العشق (العذري)، فأنا (صاحبة الطريقة) والقصائد، والأغنيات، وكل ما يتعلّق بالبؤس النسائي العشقي..
ووجدتني حذرهن من الوقوع في فخاخه الفاتنة .. ولحسن حظي إنّهنّ كتمن تلك الطرق كمن يقبض على كنزه الثمين، والَا (ماكنا خلصنا) من المتاريس، والعتاريس والبارودات التي كانت تخطيء طريق الأعداء فتصوّب رصاصها نحو قلوبنا البيضاء تماما .. كهذا .. البورتفوليو ..
لازلت بعد أكثر من 7 أعوام .. على علاقة بطالباتي (بنات القرية ) .. لازلن يقتفين أثري حيثما ذهبت، ولازلت مرجعيتهنّ العتيدة في الحب .. والحياة .. ألا يبدو لك هذا يا معلمي منهجا يستحقّ العناء، بل السعي له بأيدينا، وأرجلنا في بيتنا العربي المتهاوي من أقصاه إلى أدناه ! حسنا اخلع نظاراتك لو سمحت .. فهذا تقرير لا يصلح لعيون النظارات الأكاديمية، بل لبصيرة القلب، وأية محاولة لفهمه خارج دائرتي الطفولة، والشعر، والحريّة هي محاولة مربكة، ومرتبكة .. وإني أعرف تماما تلك النظرات التي تمارس دهشتها بالنص الأصيل خلف النظارات الشفيفة .. وكم أردت أن أهمس لك بغبطة عظيمة إني أحسدك لأنك لاتزال تمارس دهشتك بشيء ما في هذا الكون الفسيح وان كان حفنة كلمات نحمّلها ما لا تطيق ونشيّد بها اوطانا غير قابلة للاشتعال، وإن كانت من ورق .. فخلف تلك النظارات لايزال ثمة طفل يندهش، ويضحك من قلبه الكبير .. يضحك كثيرا بحجم الخيبات التي يحملها .. حتى يقنعنا بجدوى هذا العالم، فيستدرجنا، ودون أن نشعر للضحك معه.. وقيل إن الضحك حياة القلب.. فطوبى لقلوب تجترح الحياة وسط أضدادها ..
* *
خارج فضاء المحبة تتوارى النظريات، وتبقى حبيسة أدراج الكلام، وأنت الذي لا يحب الكلام عن الكلام، والحشو اللغوي، ولا جعجعة الأصوات التي ترعد، ولاتمطر .. انت الباحث دوما عن رغيف بين أكوام الدقيق المهدور .. دقيقنا .. وخيرنا الكثير المستباح تماما كزمننا العربي المثقوب .. وإني إذ اتحدث اللحظة عن المحبة، فأني أتحدث في صلب التعليم الذي يحتاجها كثيرا .. وحدها المحبّة تعلّمنا أما الألم، فهو الذي (يعلّم) بنا، ويبقى عالقا متربعا على كراسي الذاكرة، ويطبع، وشمه ، وختمه عليها، ولك أن تخبرني بصدقك الشفيف عن كميّة الألم التي علمّونا بها، واقحموا ذاكرتنا بضجيج أسموه جزافا معرفة، وعلما!!
أسألك، ولاتزال تلك العبارة الصعبة التي أطلقتها في لحظة خارجة عن السياق، وأنت تطلب منّا ( أن ندخل العلم الى الذاكرة بلا ألم ) .. ألا ترى معي أن نقيض هذا الألم العبقري هي المحبة ؟ هي نصفنا، بل كلّنا الأجمل الذي فقدناه حين سقطنا في لعنة النقائض .. وما فتئنا نبحث عنها في زوايا المعنى ..ونفترش لها العتبات لعلها يعود، فنعود.. وتحكي، فننصت.. وتحرّضنا.. فنكتب .. ألا يمكنني أن ادّعي بعد سيل المعجزات هذا، إن المحبة هي معلّمنا الأجمل، والأبقى !
هي التي علمتني هذا المساء دون غيره أن أهدأ .. أن التقط أنفاسي المتسارعة، وهي تحاول أن تشرح لك .. تلك اليد التي ارتفعت كجناح طائر أبيض، وهبطت كجناح ملاك أعرفه .. علّمتني درسا بليغا في أن أترك زمنا لخلاخيل الكلمات، وأن أنأى بصوتي ريثما تقول كلمتها، والّا أركض لاهثة فوق السطور كصبي هارب من المدرسة .. وأشهد لك بأنك في تلك اللحظة الخاطفة التي لا يقاس أمدّها بزمن عابر إنك أمسكت بي من يدي، وأجلستني كمعلم يحنو على تلميذته الصغيرة المرتبكة ووضعتني أمام اللوحة، وقلت لي بحكمة دافئة هذه ليست لوحة للدرس، بل سنديانة
للغرس فاغرسي فيها ما تشائين من أحلام ..و أوهام..و ستزهر ..
و لازلت .. منذ ذلك المساء .. أحمل عريشة ياسمين تشبه تلك التي أزهرت في أبجديتك الخضراء .. لأزرعها على أرض الذاكرة بلا ألم .. لتزهر معرفة قوامها السلام، ومنتهاها عطر ياسمين أبيض ..تماما كهذا البورتفوليو الأبيض.