قيل أن منعه من العرض كان بسبب تجسيد شخصية النبي نوح (ع) ، لكن من يتابع الفيلم يجد أن التجسيد هو الأقل وطأة ، وهناك ماهو كارثي، وأكبر بكثير منه ، فمع بداية الفيلم ، وبعد معانقته ، وقُبلته الهوليودية لزوجته عرفت أن الفيلم يتعامل مع النبي نوح (ع) بلا قيود وبلا قدسية، وكان صعباً عليَّ تقبُل ذلك ، ولم أستطع متابعة الفيلم إلا بعد أن إفترضت أن الفيلم لايتحدث عن نوح النبي بل شخص ما يدعى نوح فلا تتشابه قصة الفيلم مع قصة النبي نوح إلا في السفينة ولا شيء غير ذلك .
ليس نبياً
لايتعامل الفيلم مع النبي نوح كنبي ، بل كشخص عادي تحركه أهواؤه، فتسيطر عليه كوابيس تلازمه لمشهد قتل قابيل لهابيل ، وهذا الكابوس يجعله مشتتاً تائهاً بين كونه رب اُسرة ، ومسؤول عن أمنها ،ومعيشتها، واستقرارها ، وبين تنفيذه لأمر يقول أن القدر كلّفه به ،وهو تطهير الأرض من الشرور التي يمثلها الإنسان ، فيقرر أن يفني الجنس البشري بناء على ذلك ، ويكلّف نوح الذي قام بدوره الممثل روسل كرو “من قِبل جده ” بإنقاذ الكائنات الحية ببناء سفينة تقلهم وتُنقذهم من الطوفان الذي “يتنبأ” بأنه سيحصل “فلا خبر جاء ولا وحي نزل” ، يقوم نوح ببناء السفينة بعد أن يعطيه ذلك الجدّ بذرة تنمو في دقائق لتتحول الى غابات شاسعة ، وتساعده على بناء سفينته مخلوقات عملاقة غريبة تتكون من الصخور إرتكبت ذنباً فطُردَت من الجنة ،وبقيت على الأرض حائرة لاتعرف من تتبع، ومَن الذي يُنقذها من حالها تلك ، ثم تختار أن تُساعد نوح فتحميه من جيش ” توبال كين ” -قام بدوره الممثل “ري ونستون” -الذي كان قد قتل والد نوح في محاولته الى إمتلاك كل شيء وإستعباد البشر ، يبني نوح سفينته وتبدأ الحيوانات باللجوء الى تلك السفينة ،ويستعدّ نوح للمعركة مع جيش “توبال كين ” الذي يبدأ هجومه مع تساقط المطر ، وبداية الطوفان ليدخل السفينة في “غفلة من نوح” لتتحرك السفينة بعد أن يمنع نوح البشر من الصعود في سفينته بسبب ضيق المكان ، كما يصرح لعائلته التي لم يصغ لتوسلاتها في السماح لها بالصعود ليظهروا في مشهد مؤلم وهم يتصارخون ، ويتساقطونمن الجبل الذي لجأوا اليه و”نوح لايسمح لهم بدم بارد ،فالسفينة لاتحتملهم بينما إحتملت آلآف الحيوانات من كل الفصائل بما فيها الأفاعي !” .
عدو الإنسانية وكابوس الفناء
بعد أن تحركت السفينة التي لاتقلّ من البشر غير عائلة نوح و”ايلا “ايمي واتسون الذي يساعده “حام” ابن نوح لرغبته في الإنتقام من أبيه لأنه لم يساعده في إنقاذ حبيبته ليتركها لتغرق في الطوفان ، بينما يسمح للفتاة “ايلا ” -ايما واتسون – التي إنتشلتها العائلة من إحدى القرى ، بعد أن أفنى ” توبال كين ” كل أفراد قريتها ،وتسبب لها بجرح أدى الى عقمها ،وهذا العقم هو ما دعا نوح للسماح لها بالصعود ،فهو تسيطر عليه فكرة أن الفناء هو قدر الانسان “لأنه مصدر الشرور ” فيخبر عائلته أنهم الوحيدون الذين سيبقون على قيد الحياة في هذه الارض ،ولن يكون هناك تناسل وتكاثر فيما بينهم ، فيموت الأبوان ،ويدفهم سام ويموت سام و إيلا ليدفنهم حام ،و يدفن حام شيم ، وهو آخر إنسان ، لكن تدخُل “جدّ” نوح وقيامه بتغيير قدر ايلا ليحولها من عاقر الى إمرأة ولود يُغضِب نوح ، فهذا يجعلها حاملا من “سام” فيقرر أن يبقي على المولود إن كان ولدا ليدفن “شيم” ، ويقتله إذا كان بنتاً فهي ستتسبب في إستمرار التناسل ،وهو ما يتعارض مع واجبه في تطهير العالم من الإنسان، ومن شروره ، ولم تنفع توسلات العائلة في تغيير قراره ،وهذا يتسبب في رفض الجميع لقراره ،وإستعداد سام لمنع “نوح” من قتل مولوده حتى بالقوة ، فهو يقرر قتل أبيه في حال أصرّ على ذلك ، لتلد “إيلا” توأما أحدهما بنت يعدل نوح عن قتلها في اللحظات الأخيرة ، لكنه لايسامح نفسه على قرار الإبقاء على الفتاة ، فيعتزل العائلة بعد أن ينتهي الطوفان ،ويحاول نسيان ما حصل بشربه للخمور ،والبقاء ثملاً كل الوقت ، ليعدل عن هذا القرار بعد ذلك ،ويطلب من أبنائه أن يتناسلوا ويملأ الأرض بالبشر في تحول غريب .
نوحهم ونوح القرآن الكريم
إعتمدت قصة الفيلم على التوراة في مفاصلها لذلك ، فهو نوح التوراة ، وليس نوح القرآن الكريم ، النبي ،وصاحب الرسالة الربانية ، و أبو البشرية الثاني ،ومنقذ الحياة على الأرض ،والفرق شاسع بينهما ،فنوح “الفيلم” يقتل الكثيرين في مشاهد غلب عليها طابع الأكشن والمغامرات ، ويرتدي ملابس ، وأزياء شبه عصرية ،وفي الحقيقة ، الفيلم ممتع إذا ما نظرنا اليه بتجرد ،وتجاهلنا الخلفية الدينية ،فإستُخدمَت فيه تقنيات حاسوبية مقنعة جعلت الفيلم يقترب من كونه فيلم خيال علمي عن كونه فيلم سيرة لنبي ، و ما أثَّر عليه حشر شخصية النبي فيها فهي تُسيء اليه بشكل كبير ،وتخالف دور النبي تماماً ،ولا أعرف لماذا هذا الإصرار على هذه الإساءة ،فكان كاتب ومخرج الفيلم “دارين أرنوفسكي ” يستطيع أن يقدم فيلمه بتسمية اُخرى للشخصية ،ولن يحصل حينها خللٌ ما ، لكن إستخدام اسم النبي له اسبابه ،ربما لأن تسقيط الأنبياء يبرر لهم أخطائهم فهو يروجون لفكرة أن هذه تصرفات النبي فما بالكم بالناس العاديين؟ وعندما يرفض هؤلاء تلك التصرفات ، فهم أفضل من الأنبياء بالحصيلة النهائية، وهذه فكرة خطيرة يجب مقاومتها ، لكن كيف بالإمكان ذلك ؟ وهل ينفع منع عرض الفيلم ،وحجب تلك الأفكار من وصلولها الى المُشاهد ؟ أعتقد أن منع مشاهدة الفيلم سيسبب في نمو رغبة دفينة عند أي فرد في أن يُشاهد الفيلم ، فالممنوع مرغوب ، فزادت نسبة المشاهدة بعد هذا المنع ، وقنوات ،ووسائل المشاهدة تنوعت مع دخول الأنترنيت ،والتقنيات الحديثة الى بيوتنا، لذا لا ضير من عرضه في الصالات ،ليشاهد شبابنا كيف ينظر الغرب الى أنبيائنا ،وليحكم هو بنفسه، لكن يجب أن يُقارن ، وبماذا يُقارن ؟ ، عندما يصنعون الآن فيلماً عن النبي يوسف(ع) مثلاً بعد أن عرفه المٌشاهد العربي عبر متابعة المسلسل الإيراني ” يوسف الصِدّيق ” هل ستنطلي عليه تلك الأكاذيب ؟ إذن الرد على فيلم كهذا يكون بإنتاج فيلم عن النبي نوح (ع) أو للأنبياء الآخرين ليتابع المُشاهد حقيقتهم بدون تشويه فيكون حينها قوي الحجة فلا تنطلي عليه هذه الأفكار الساذجة .
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC