ناصر أبو عون
نحن في هذا الوقت في حاجة ماسة إلى الكشف عن بذور النظرية السياسية في أدبيات (السلطان قابوس آخر سلاطين الأرض) وقراءة الخارطة الفكر ية والسياسية لنظرية الحكم في سلطنة عمان عبر قراءة تحليلية معمقة تستند إلى منهجية (تحليل الخطاب) استنادا إلى المنهج التاريخي، ونظرية تحليل الخطاب السياسي في قراءة الخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد عبر مسيرة أربعين عاما من الحكم الرشيد وبمطابقة المراسيم السلطانية والقرارات الوزارية المفسرة لها بالوقائع على الأرض لمقارنة ومقاربة مدى التطابق بين التنظير والتطبيق ؛ حيث يحتل التحليل التاريخي المستند إلى المقاربة والمقارنة والتحقيب المنهجي مكانة أكبر بكثير من حقول علمية أخرى، والمحصلة تعزيز استخلاص خبرة سياسية ملموسة، ربطاً بالنموذج المفاهيمي في التحليل النظامي ـ الوظيفي للواقع والبنية والحالة الموضوعية. وانطلاقا من هذا المنهج نرى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس يؤكد في خطابه السامي عام 1978 على” أن إنشاء دولة عصرية من النوع الذي يواكب احتياجات هذا العصر ، لم يكن بالأمر الهين بالنسبة إلى أمة .. وإن كان لها تاريخ عريق وفتوحات مجيدة ورفع راية الإسلام في وجه كل ما من شأنه النهوض بها ورفع مستواها وتطورها ، ولكن الحمد لله فقد تغلبنا على معظم العقبات والصعاب وكوَّنا حكومة حديثة بجميع مؤسساتها ومنشآتها لتفي بكل متطلبات التطور السريع الذي فيه مصلحة الوطن “
رؤية مستقبلية تستلهم التاريخ
إن قراءة القشرة الخارجية لكافة خطابات صاحب الجلالة تؤكد على فكرة محورية واحدة تتفرع لثانويات عديدة – ناهيك عن القراءة العميقة بوسائل التحليل المنهجي لأدبيات الخطاب السامي – حيث تؤكد على إن بناء الأمم واستنهاض الشعوب يستلزم رؤية مستقبلية تستلهم التاريخ ، وتنهل من التراث وتنتقد الحاضر ، وتستشرف الآتي ، وتسعى لاستنفار الهمم ، وترشيد موجه للموارد الاقتصادية والبشرية التي اجتاحت غالبية دول العالم. وفي عُمان ترسخت قناعات لدى خبراء مراكز الدراسات السياسية والاستراتجية أنه من الممكن تجنب ما يسمى “هدر الموارد” وتخطي تلك الأزمة العاصفة التي أصابت الكثير من الدول الغنية بالاستنزاف الأعمى لمواردها الطبيعية فقد نجحت السلطنة بقيادة صاحب الجلالة ومن خلال سن رزنامة من القوانين، واتخاذ تدابير حكم متوازنة وحيادية صالحة مبنية على الشفافية والمساءلة في بناء جسور من التواصل مع كافة شعوب وأنظمة الحكم المتباينة على ساحة المجتمع الدولي واحترام القرارات والمواثيق الدولية انطلاقا من (الشرعية الدولية) مما جعل السلطنة ضمانة وصدقية في تأمين الملاحة في مضيق هرمز وحفظ الأمن في منطقة الخليج العربي.
إن نظام النظرات الذي نشأ ونما في النسيج الحيّ للوقائع السياسية والاجتماعية والربط بين التاريخ والأهداف، وعلى وجه الدقة التاريخ والنظرية الغائية، وتعميق التكهن استناداً إلى التحليل التاريخي لتحقيق الأهداف، بعيداً عن “الحقائق المقدسة” الخامدة المفصولة عن الوسط التاريخي، بتعميق الثقافة السياسية التي تعرب عن مصالح قوى اجتماعية واسعة وملموسة تماماً في أي زمن. فالشعاراتية “المقدسة” رغم ضوضائها سرعان ما تتحول على الأغلب إلى صورة عن لوحة الاستكانة والتعاطف العام، بعيداً عن مشروطيات الوسط الاجتماعي الطبقي والثقافة السياسية في زمانها ومكانها.
إن تحليل العلاقة بين القوة والمعرفة، هو الصراع على المعنى التاريخي والاجتماعي وهو بالمحصلة التاريخ بعينه، لقد احتفظت سلسلة الكتب، بطاقة معرفية نقدية عالية، عبر إدراكها المبكر للتوتر الذي هيمن على الوعي بالشروط المتصارعة المتناقضة، وكيف انتهت هذه السيرورة الجدلية التي تفاعلت وتطورت.
إن محاولة قراءة مدى التطابق بين خطابات المقام السامي والمراسيم السلطانية والقرارات الوزارية المفسرة لها والأحداث والوقائع على الأرض في إطار منهجية المقارنة والمقاربة والبحث في الصورة عن مدى التطابق بين التنظير والتطبيق.
فلسفة الولاية ومعايير الكفاءة
إن المقولة الأزلية التي ترى أن الفيلسوف أحق الناس بعرش الدولة هي مقولة – في سلطنة عمان – لم تنبع من فراغ بل من واقع معاش وتعالج الحدث وتضع الحل المناسب له لقد اقتفى جلالته آثار الحكماء والفلاسفة الكبار في تاريخ البشرية لينقلها من تهويمات التنظير والدرس إلى عالم الواقــــع وخاصة هؤلاء الذين يدعون في كتاباتهـــــــم وآرائهم العامة إلى تبني مفهوم ( الكفاءة والخبرة والعلم ) في إدارة الدولة فهو ينظر إلى جميع أفراد المجتمع نظرة واحدة بل إن فضل شخص على آخر يكون من باب الاجتهاد أو الدرجة العلمية والخدمة التي يقدمها إلى مجتمعه ويدعو إلى نبذ المحسوبية في الاختيار بل يقدم الوظائف الإدارية أو المناصب القيادية إلى أصحاب الكفاءات المختلفة فهو يرى بل يؤمن بأن بوابة التقدم واعتلاء منصة الحضارة هي في ترسيخ هذا المفهوم ونشره بين أفراد المجتمع كثقافة واجب الأخذ بها والعمل بمقتضاها.
ويتجسد هذا المعنى السابق في خطابه عام 1978 عندما قال ” كل الأفراد العمانيين هم أخوة وأبناء ونحن لا نحب أن نسمع أن هناك توظيفا أو تقريبا أو تمييزا على أسس غير الكفاية واللياقة والإخلاص وعليكم جميعا أن تجعلوا نصب أعينكم دوما مصلحة عمان وشعب عمان “
وانطلاقا من هذا المبدأ فقد أدرك بأن ( السيرة الحسنة كشجرة الزيتون لا تنمو سريعاً ولكنها تعيش طويلاً) ، وأن المجتمع لا يمكن إصلاحه بين ليلة وضحاها ؛ بل يجب أولا نشر المثاليات بين أفراد المجتمع والإيمان بنهجها أو جدواها فمتى ما شعرت الشعوب أو المجتمعات المركبة بأن القانون هو الأساس أو السلطة الواجب الأخذ بها فإنها وضعت أقدامها على الطريق المناسب إذن لابد أولا من تثقيف الشعب بهذه المفاهيم وجعلها الركائز الأساسية لبناء المجتمع الإنساني الذي نحلم بتكوينه أو ننشد الوصول إليه وتلك غاية ليست بتلك البساطة التي قد يتصورها البعض بل هي بحاجة إلى جهود جبارة بل ربما تكاتف جميع المؤسسات العاملة أو المعنية بهذا الأمر.
نظرية الحاجة بديلا عن الأيديولوجيا
إن الخريطة السياسية للعالم تشي بتحول دراماتيكي في أنظمة الحكم وتعدد أشكال الديمقراطيات وأن المشهد السياسي أصبح بالغ التعقيد وأن جميع الدول على اختلاف نظمها السياسية تحاول من خلال عملية واسعة من الإصلاح الديمقراطي الانتقال بدرجات متفاوتة في سرعة الإيقاع من عصر الشمولية والسلطوية إلى عصر الديمقراطية والليبرالية وهذا التوجه مرده إلى ضغوط خارجية تتمثل أساسا في انتقال المجتمع العالمي إلى عصر العولمة نتجت عنها عدة تجليات مختلفة فهناك أولا تجليات سياسية للعولمة تتمثل في ضرورة احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة ، وهناك تجليات اقتصادية تتمثل في توحيد السوق العالمي الاقتصادي وفتح المجال واسعا وعريضا أمام الاستثمارات الاقتصادية وإلغاء كافة الدعم ، والنفاذ إلى الأسواق الوطنية وتصفية شركات القطاع العام من خلال برامج الخصخصة وفرض الإصلاح الاقتصادي الذي يهدف إلى تحرير السوق واستخدام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لفرض برامج التكيف الهيكلي ، وأصبحت (منظمة التجارة العالمية) هي الحارسة للرأسمالية المعاصرة ، وهناك ثالثا تجليات ثقافية تقوم على أساس محاولة صياغة ثقافة كونية تسعى إلى تقنين نسق عالمي من القيم يحكم سلوك البشر في كل مكان. وفي خطابات المقام السامي وتحديدا في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين أدرك صاحب الجلالة أن ( الحاجة حالة اجتماعية وتاريخية تولدها الضرورات وتفرض على الناس السعي إلى سدها ) وحيث إن السعي في ذلك لا يقع حصرا في باب العمل ، وإنما يفرض النظر أيضا ويقتضيه فإن سد الحاجة وتحصيل المنفعة مما لا يتمكن إلا برؤية ، بتصور مسبق للهدف المرام ولوسائل تحقيقه أو بلوغه .
وأكثر ما يتبين في هذا المعنى للأيديولوجيا (هي) الأيديولوجيا السياسية أو التي يكون مضمونها – وتكون رهاناتها سياسية – ففيها يلحظ مقدار ضغط الحاجة والمصلحة في تكوينها وشرعنتها كأيديولوجيا مثلما يلحظ فيها اتصال تحقيق ذينك الحاجة والمصلحة بقيام نظام من الأفكار والتصورات (الأيديولوجيا) يعبر عنها .
لقد أوجد الاستبداد الحاجة إلى الحرية والديمقراطية – وفرض تحقيق الهدف هذا أيديولوجيا سياسية (الليبرالية) مطابقة ترسم (خريطة طريق) تأخذه نحو الهدف المرتجى ؛ فمن الثابت أن الهدف كان واضحا منذ الخطوة الأولى لجلالة السلطان ومنذ لحظة جلوسه على العرش ولكنه لم يعتمد على (الحاجة) أو (المصلحة) وحدهما في بيانه بل لجأ إلى الفكر التنظيري والتطبيقي في آن لتكريسه واقعيا؛ ذلك أن أسئلة من نوع : ما الحرية؟ وما الديمقراطية؟ وما العلاقة بين السلطان والشعب، وكيف يعاد بناؤها ، وعلى أي نحو أو مثال ؟ وما المواطنة؟ وكيف يتم توزيع السلطة ؟ ولمن تكون السيادة؟ ومن يكون مصدر السلطة ؟ أسئلة لاتجيب عنها الممارسات فقط وإنما هي ما يتناوله الفكر ويكون حوله نظرة شاملة (نظرية) والأيديولوجيا السياسية ليست سوى ذلك الوسيط بين الفكر والممارسة ، العقل والإرادة؛ هل كانت العلاقة بين الفلسفة السياسية الحديثة ( فكر الأنوار ) والثورة الفرنسية والأيديولوجيا غير هذا؟
وتؤكد القراءات المعمقة للفكر السياسي عند جلالة السلطان أن جلالته أدرك (سوأة) الأيديولوجيا حيث تتحول في وعي عند من يعتنقونها إلى عقيدة جامدة وحقائق يقينية مطلقة وثابتة لا سبيل إلى مراجعتها أو إعادة النظر في بعض يقينياتها . وقد يحصل إيمان بثابتية (حقائق) الأيديولوجيا ومطلقيتها إما من باب الخلط بينها وبين المعرفة وحسبان نظام التصورات والرؤى فيها نظاما معرفيا ، أو من باب التمسك الاجتماعي بقيمة أو قيم تعبر عنها تلك الأيديولوجيا والظن بأن مراجعة الأيديولوجيا ما هي إلا الوجه الآخر للتراجع عن تلك القيم – وفي الحالين تكون النتيجة الحكم على الأيديولوجيا المتبناة بالانحطاط وبالعجز عن أداء وظيفتها الاجتماعية ويحوِّل هذا النوع من الوعي الجامد بالأيديولوجيا والعلاقة بها إلى عقيدة دينية جديدة : التسليم الإيماني بها واجب ، والتفكير في يقينياتها كفر ، والخروج عليها ردة ! كذا هو الوعي الخامل المستسلم ، المغلق ، الفقير إلى هواء النقد النظيف.
فلسفة الخروج من أزمة الفكر السياسي
إن المعضلة القائمة في الفكر السياسي في الدول النامية، تكمن في بنية تكوينه وآليات اشتغاله، فهو ينتج تنظيرات مبنية على منظومات فكرية مسبقة الصنع، ويحاول دوماً «إجبار» الواقع على الدخول في قوالبها بناءً على «حتميات» ، و«كوننة مفاهيم» (أي جعل مفاهيم ما كونية وليست محلية؛ إشارة إلى الفكر الغربي الوافد) ، وتحدث الفكر السياسي في مجموع الدول النامية عن «دولة مثالية» لا علاقة لها بالواقع. ومن ثم فإن الفكر السياسي في كثير من الأقطار بشقيه الإسلامي وغيره متورطّ في أزمة لم يستطع الفكاك منها حتى الآن، فهو يعاني ازدواجية في الانتماء، وغياباً كاملاً لدور «الأمة»، وهكذا فالانشغال بتحليل تلك الأزمة كان ولا يزال مطلباً ملحاً.
غير أنه في سلطنة عمان بدأ جلالة السلطان مبكرا التفكير في كيفيات الخروج من مأزق الانفصام بين الأمة والشريعة، وسادت أخيراً الفكرة القائلة بأن مرجعية الشريعة لا تتنافى والديمقراطية الإجرائية المعنية بتولّي الناس لأمورهم وهكذا عاد التواصل بين «نظام الشورى» لدى الشعب العماني و«النظام الديمقراطي» لا على سبيل التماهي والتماثل، وفقا لتعبير (رضوان السيد) بل على أساس أنهما نظامان مختلفان، لكنهما يتلاقيان في أمور كثيرة، وقد استتبع هذا التطور في النظر إلى مسألة المشروعية «الأمة مصدر السلطات». ولم تكن مرجعية الشريعة الإسلامية التي وردت في خطابات المقام السامي والتي لا تتنافى مع الديمقراطية الإجرائية ذلك الخط المستقيم الواحد الذي يمتد منه البصر لترتد الرؤيا واضحة جلية واحدة ؛ بل تلك الأفكار المختلفة المتشعبة التي تمنح رؤيا متنوعة واستنتاجات عقلية متفاوتة متباعدة إنه الزمن والتطور وتصادم الأفكار وتمازجها إنه الجديد الذي يولد من القديم ويحمل من صفاته ويمنحه واقعه المعاش صفات أخرى.
وتعد فكرة التعددية هي محور ومناط الفكر السياسي عند جلالة السلطان وإن كانت في الأصل ليبرالية المنشأ حيث ينظر هذا المفهوم إلى المجتمع على أنه متكون من روابط سياسية وغير سياسية متعددة، ذات مصالح مشروعة متفرقة. ويذهب أصحاب هذا المفهوم إلى أن التعدد والاختلاف يحول دون تمركز الحكم ويساعد على تحقيق المشاركة وتوزع المنافع، غير أن كلا من اليسار الجديد واليمين الجديد يرفض هذا المفهوم ويعارضه. ومن المتفق عليه عند المعنيين أن تمركز التعددية يقوم على مستويين هما:
المستوى الأول:- مستوى الفرد وبموجبه هناك فكرة تؤكد (أن لا أحد يملك الحقيقة كلها، وبالتالي ليس من حق أحد مصادرة آراء وأفكار الآخرين، وإن بدت غير صحيحة من وجهة نظر ما). والمستوى الثاني: هو المستوى الاجتماعي فمن الملاحظ أن اكتشاف ثراء وتعدد تجارب الجماعات والشعوب الأخرى دفع العمانيين إلى التعرف على تلك الشعوب والجماعات خارج الدولة وتوسيع معارفهم بالنسبة إلى العالم الذي كان مقتصراً في السابق على العالم العربي ليدركوا وجود مجتمعات متباينة عنهم في العرق واللون والدين والعادات والتقاليد وأنظمة الحكم وأنماط الحياة وطرق التفكير…الخ.
إن التعدد هو دافع فعلي حتى داخل المجتمع الواحد المنقسم عمودياً إلى فئات وطبقات متمايزة في الملكية والنفوذ والأيديولوجيات ومستويات المشاركة في إنتاج رأس المال الرمزي، هذا بالإضافة إلى أن المجتمع، كل مجتمع، منقسم أفقيا إلى انقسامات أثنية ودينية ولغوية ومذهبية. وهي ترتبط بالتقسيم الاجتماعي للعمل بين التجارة والصناعة والزراعة والحرف، وكذلك الانقسام بين العمل الذهني والعمل العضلي بين الرجل والمرآة.
باختصار نقول: إن التعددية تعني تعدد الجماعات الاجتماعية التي تتبنى مفاهيم متميزة للواقع وحقائقه وللمستقبل السياسي الخاص بهذا الواقع. وبهذا المعنى فان التعددية الاجتماعية هي ظاهرة ملازمة لكل مجتمع بشري، فقد عرف هذا المجتمع أو ذاك ظواهر التبادل السلعي والملكية الخاصة والدولة، بل وقبل ذلك وبعده، فان المتمايزات الثقافية والعرقية والدينية بما تفرضه من تمايزت في الرؤى والمواقف السياسية هي تمايزات ملازمة لطبيعة المجتمع البشري ذاته. ونتلمس حضور التعددية بوصفها منهجاً أو إطارا تحليلياً في حقل السياسة المقارنة حيث يدخل مبدأ التعددية ضمن المداخل التحليلية ذات المرجعية الليبرالية. فكل نموذج ليبرالي هو نموذج تعددي، وينضح ذلك على مستويين هما مستوى المجتمع ومستوى الدولة. فعلى مستوى المجتمع، فإن كل مجتمع يتكون من جماعات متفاعلة مع بعضها البعض، أما شكل هذا التفاعل بين الجماعات داخل المجتمع فانه يختلف من نموذج إلى آخر. أما على مستوى الدولة ودور الدولة فان المدرسة الليبرالية التعددية تؤكد بان دور الدولة في الحياة السياسية سيظل مقتصراً على تنظيم عملية التنافس بين جماعات المصالح المختلفة، وهذه المنافسة هي أساس العملية السياسية، وهي المحرك لعملية التغيير والتطور في كل مجتمع يحرص على ما هو آت ولينشغل بما فات.
سيادة القانون والعقد الاجتماعي
ينتقد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك والمنظِّر الرئيسي لما يمكن أن نسميه “الثورة المجيدة” في انجلترا 1688، هذه الثورة التي شيدت الملكية الدستورية و الليبرالية الاقتصادية في الجزء الأول من كتابه “تحليل الحكومة المدنية”، الطروحات الملكية لمعاصره “روبيرت فيلمر” التي تقول بأن السلطة السياسية لا يمكن أن تكون إلا ملكية و أن “السلطة الأبوية” للملوك أسست في نفس الوقت بالطبيعية و من خلال الثورة. يقول لوك إن هذه النظرية خاطئة ولابد من اكتشاف واحدة أخرى تتعلق بالحكم. ومن أجل هذا لابد من العودة للحالة الطبيعية عند الإنسان. فما هي هذه الحالة الطبيعية؟ هي حالة من الحرية و المساواة، حيث لا يوجد تبعية أو طاعة بين البشر، والذين هم من فضاء واحد ونظام واحد، لقد ولدوا من غير اختلاف ولديهم نفس المؤهلات. والحرية الطبيعية ليست من غير حدود عند جون لوك. إنها محددة بما سماه “قانون الطبيعة” نفسه، هذا القانون يمتزج مع العقل والذي يعلم جميع الناس أن البشر جميعهم متساوون ومستقلين ،يجب ألا يضر أحد أحدا آخر، لا في حياته ولا صحته ولا حريته. في الواقع ومن العبث القول إن الإنسان سيطبق القانون في غير مصلحته، لأن “حب الذات” كما يقول جون لوك يجعل من البشر متحيزين لمصالحهم و لمصالح أصدقائهم. بالتأكيد، ولهذا السبب سنرى أن الإنسان يسعى للخروج من الحالة الطبيعية إلى الحالة السياسية.
والسبب في ذلك الانتقال هو أن جلالة السلطان عندما تولى العرش منذ أربعين عاما كان يعلم أن معظم المواطنين العمانيين يعيشون وفق مفهوم ومصطلح ( الحالة الطبيعية ) وهذه الحالة ترافقها العديد من الصعوبات. حيث ملكية الفرد أو الإنسان في هذه الحالة معرضة لضعف وهشاشة كبيرة. يقول جون لوك هنا :” إذا كان الإنسان حرا في حالة الطبيعة وسيدا مطلقا على شخصيته وأملاكه، إلا أنه ليس الوحيد الذي يمتلك ويعيش نفس الحرية، فالجميع لديهم نفس المميزات والقسم الأكبر منهم لا يحترم المساواة ولا العدالة، وهذا يعرض الملكية للخطر وعدم الثبات. ضمن هذه المشكلة لابد من البحث عن علاج. وهذا ما قاله في كلمة وجهها إلى رجال الدولة الكبار علم 1978 التي قال فيها ” إن السياسة التي اخترناها وآمنا بها هي دائما وأبدا التقريب والتفهم بين الحاكم والمحكوم بين الرئيس والمرؤوس ، وذلك ترسيخا للوحدة الوطنية وإشاعة روح التعاون بين الجميع ” ويمكننا القول هنا وبجرأة علمية أن جلالة السلطان قابوس استطاع باقتدار أن ينقل المجتمع العماني من الحالة الطبيعية إلى الحالة السياسية / الجماعية. وذلك من أجل وضع حد أو نهاية لضعف وهشاشة الحياة في الحالة الطبيعية، لابد من أن نجتمع أو ننتقل إلى الجماعية. حيث يتخذ الإنسان قرارا بالاتصال بالإنسان الآخر، من أجل حماية بالتبادل لحياتهم، لحريتهم ولأملاكهم. وحتى يصيح هذا ممكنا، يجب و يكفي أن كل فرد من بين الجماعة يمتلك و يمارس حقه الطبيعي ، وهنا لن يكون لديه القدر على الحصول على حقه أو يثأر للضرر الواقع عليه لأنه أصبح يعيش في جماعة وليس لوحده. إذا الجماعة هنا عليها أن تمتلك القوانين والتي من خلالها تتم المحاسبة ثم تنفيذ الأحكام، في هذه الحالة الحق الطبيعي في العقوبة سيكون مضمونا من قبل الجماعة بدل من أن يقوم كل فرد وبنفسه بتحصيل أو تطبيق الأحكام.
نستنتج هنا الصفات الثلاث الجوهرية للاجتماع السياسي الذي تحقق في سلطنة عمان منذ مطلع السبعينيات على يد جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظَّم. هذا الاجتماع سيكون لديه:
1ـ قوانين، معروفة وواضحة ومجربة.
2ـ قاضٍ يطبق القوانين بشكل موضوعي، وهذا ممكن لأنه لا يطبق قوانينه الشخصية بل قوانين الجماعة أو المجتمع السياسي.
3ـ سلطة تستطيع تنفيذ الأحكام ، وهذا ممكن أيضا لأن من سيملك السلطة هي قوة مشتركة مكونة من كل الجسم الاجتماعي.
من يريد مميزات قيام الدولة عليه القبول و احترام هذه القوانين التي تكفل الحرية التي كفلتها القوانين الطبيعية. و بالتالي يتم التخلي عن الحق الطبيعي في العقوبة لصالح السلطة (إلا في حالات الدفاع عن النفس حيث الضرورة والحالة الطارئة لا تسمح للسلطة بالتدخل الفوري).
وهنا انتقلت سلطنة عمان لما نسميه “العقد الاجتماعي”، هذا العقد الذي لن يجعلنا نخسر أو نفقد حقوقنا في تبادلها مع الآخرين لأن:
1- العقد الاجتماعي سيحمي الملكية، أو جوهر الحقوق الطبيعية.
2- يتم التخلي عن الحقوق التي ليست من الأولويات، لأن الدولة ستنوب عن الفرد في ممارستها، وسيكون هذا لصالح المجموع. إذا يمكننا في النهاية أن نختصر نظرية العقد الاجتماعي عند جون لوك وتحققها على أرض الواقع في سلطنة عمان بما يلي : حقوق انتقلت إلى الدولة حيث كانت في حالة الطبيعة : وفيها (الحق في تفسير القانون الطبيعي ،الحق في الحكم، الحق في العقوبة) وأصبحت في المجتمع السياسي:( سلطة تشريعية، سلطة قضائية، سلطة تنفيذية). أما بالنسبة للحقوق المتعلق بالفرد ، انتقلت من حق الملكية الطبيعي إلى حق الملكية القانوني. وهو ما نراه تجسد في تلك العبارة المكثفة من خطابه عام 1978 عندما قال أما حشد من رجال الدولة ” إن العدل أبو الوظيفة وحارسها . فتمسكوا به وعاملوا الجميع بمقتضاه وإنني لرقيب على أن يفي كل منكم بهذه الأسس والمعاني وعلى المسؤول أن يعتبر مصلحة الدولة فوق كل مصلحة وأن ينتقي الأصلح فالأصلح “
تكييف السياسة وفق الحياد والتوازن