صدرت للشاعر والكاتب العماني سيف الرحبي ترجمة لديوانه (الجندي الذي رأى الطائر في نومه) باللغة السويديّة عن (دار الحمرا للنشر والترجمة) التي يشرف عليها المؤلف الناشر والمترجم هشام بحري الذي يقيم في السويد منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي ، وقام بنشر ما يزيد عن 250 ، من بينها ترجمة وتقديم الأعمال التالية إلى القارئ السويدي .
من أجواء الديوان المترجم حديثاً إلى اللغة السويديّة هذه القصيدة الأساسية في الديوان التي تحاول استقصاء وحشيّة العنف البشري ، فضحِه وإدانته في كل زمان ومكان .. منذ صخرة قابيل ، المقتلة الاولى في تاريخ البشر الدامي ، وحتى اللحظة التي يحتدم فيها هذا العنف الهمجي.
وبديهي أن الوضع العربي الراهن يستأثر بالحيّز الأكبر من هذه المجزرة السحيقة المتجددة في فضائها المفتوح على احتمالات الشر والدم المراق ظلماً وعبثاً..
الجندي الذي رأى الطائر في نومه
عليّ أن أبعثر الجهات والمرايا
كرجلٍ ينهض من نومه
بطيئاً متكاسلاً
الجهات التي تطوّقني بألسنه اللهب
فلا أستطيع الوقوف
متعثراً بصخور البارحة
ووجوه تتقاطر في نومي، برؤوس مقطوعة
وقامات مديدة تشبه النخل الذي خلّفه أبي
تشبه المغيب الناضج كثمرة.
عليّ أن أبعثر الجهات جميعها
كي أستطيع أن أتبيّنكِ
قطرة في ظلام الصحراء
وهذه الحشود التي تحصد رأسي
بمناجلها المثلّمة.
أن أتبين الضوء القليل الراشح في ليل القوافل
ذؤابة الحقل الدامي
وهذا الخلاء الطافح بالأشباح والبداة
وزئير الحيوانات المنقرضة
أن أتبينك، ربما في آخر محطة لقطار ودّعتك فيها،
من آخر مدينة للأقوام الثاوية في نومي.
تشيرين إلى البعيد.
باليد الهائمة في الهواء
تمتمة الشفاه التي تشبه الثمرة الناضجة
في المغيب
حركة الأصابع المثنية في وحشة الجسد.
عليّ أن أبعثر أشلاء اللحظة
وأسوق الجيوش إلى حتفها
كجندي يستعيد يوم حريّه
الجندي الذي رأى الطائر في نومه
فانتشله من بركة الدم
ومضى
كان يجري في حقول الظهيرة
في يده الطائر
على جسده زَرَدُ المعدن الثقيل
باحثاً عن مكان
عن سراب استراحة.
الجندي الذي رأيناه معا
على منعطف الطريق بين الشمال والجنوب
هو هو
أو يشبهه
كان يتحدث مع عمال القمامة
بستراتهم السميكة
لم يكن لابساً سترة المعدن بعد
بماذا كان يتحدث ويحلم؟
بماذا كان يومئ إلى رفاق الحانة؟
كان ليل ينكسر على رؤوسنا
كانت مدينة
بشرية كاملة من النمل تسرح في جروفه
النمل الذي بنى عرشه على الأرض
وليس على الماء
لم يكن لدينا بيت، باحثين عن مستقر
بين جبال ومدن وقرى
ضربها الإعصار ذات مساء
كنا نرقب طلائعه البهية
من شرفة تهتز عمارتها
رأيتها البارحة في نومي
لكن بصورة أكثر قتامة وذعرا
ورأيت أني ذاهب إلى نفق أبحث
عن محفظتي التي نسيتها في المقهى
كان الإعصار يلتهم كلّ شيء
كان يتلوّى كمن يفترس نفسه
بعذوبة
موجة هائلة من الزّبد والجنون
معراج قيامة،
قبلها أضاء المكان
عبر بضع عواصف تائهة
ما لبث أن دفع بأثقالها نحو الأعلى
في هذه اللحظة
تذكرت طوفان نوح
تذكرت لوتريامون
تذكرت القبلة الأولى بعد الإعصار
تذكرت الجندي تائها بين الصحاري
في يده الطائر
على رأسه خوذة المعدن
يركض في الهاجرة
يطارده شبح الأعداء
تطارده الظلال والثكنات
لم تكن الحرب التي كسرته
وليس الأعداء الذين سكنوا تحت ضلعه طويلا
بجوار قلبه المرتجف،
كان الطائر وهو يرفس في بركة الدم
كان الإعصار وهو يلتهم الأعماق
كان القبر المفتوح كنهر من عظام
الهالكين
مضى بصحبة الطائر
في ليل وحدته
بعيداً عن الثكنة
بعيداً عن الجماعة.
قال: (يا ربي هؤلاء قومي وأنت أدرى بهم وأني
لبرئ من حربهم وسلامهم.. أيها الطائر امنحني
قطرة من ماء روحك، امنحني السكينة.)
كنا نبحث عن مستقر
وسط الضجيج والأزمات
وكان الطائر قبل وقوعه في بركة الدم
باحثاً هو الآخر
وسط عذوق النخيل المتمايل بفعل العواصف
في السحب الداكنة من غير مطر
وسط الأكمات
كان له فضاء
يذرع تخومه النجمية
جيئة وذهاباً
متنزهاً بين جنائنه ذات المخلوقات الأثيريّة
كأنما صُنعت من قُبلات ملاك.
فجأة ضاق به الفضاء
ضاقت به أحلامه
سقط في بركة الدم
عوى كذئب
لكن لم تكن له روح ذئب
وما فائدتها في لجة المعدن الهائج
ما فائدة الروح؟
في الفضاء رأى حروباً أخرى
رأى ثكنات نسور وأوبئة
شاهد المجرات تمخر ليلها السرمدي
وتحتل مجرات أخرى
أو تبيدها كرماد تسفّه ريح
رأى العنقاء تحلق فوق المرتفعات
وعلى مناقيرها الجثث
لكنه لم يسقط
ظل متماسكاً
بقلبه وريش أحلامه البسيطة
لم يسقط في بحر السلاح الهادر.
كان ضوء الدوار الحارق
الذي سقط عليه من الأرض
وهي تدور في جعبة كواكب أخرى
ضوء حارق اقتلعه من الجهات كلها
طوّقه بألسنة اللهب
ذاك القادم من جرح البشر السحيق
دار حول نفسه كثيراً
حلق في دروب جمجمته الصغيرة
وكأنما في دروب مجرات
تلك التي رآها في نومه.
ماذا يستطيع أن يتذكر؟
ربما رأى طيوراً أو حيوانات تسبح
في الضوء نفسه
والتي كانت أمه على مقربة من غدير أو مقصلة، كانت ذابلة
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC