كان قريباً من أوسكار أفضل فيلم أجنبي في الدورة السابعة والثمانين لهذا العام فقد تنافس فيلم “تمبكتو” مع أربعة أفلام أُخرى تم إختيارها كأفضل أفلام أجنبية حول العالم ، وقبل هذا الترشيح تربع على عرش حفل جوائز سيزار”التي تناظر الأوسكار بنسخة فرنسية ” بسبعة جوائز هي جائزة أفضل فيلم ومخرج ،سيناريو ، تصوير ،موسيقى، توزيع الصوت ، ومونتاج ، كما تَنَقَّل بين أكثر من 30 مهرجاناً آخر حول العالم من بينها مهرجان ” كان” الفرنسي ، “هامبورغ” الألماني ،”هلسنكي” في فنلندا ،”شيكاغو وميل فالي” في الولايات المتحدة، “فينّا” في النمسا ، “ثيسالونيكي” اليوناني ، و”بانكوك” التايلاندي، وبإختصار فعل هذا الفيلم الموريتاني على مستوى العالم مالم يفعله فيلم عربي آخر بما فيها “السينما المصرية” رغم الكم الكبير الذي أنتجته في تأريخها الطويل، هذا إذا إستثنينا السينما الجزائرية التي حظيت خمس من أفلامها بترشيح الأوسكار ، فهو ثامن فيلم عربي يتم ترشيحه الى الأوسكار لغاية 2015 بعد الأفلام الجزائرية الخمسة و فيلمين فلسطينيين ، كما تم عرضه تجارياً في اكثر من دولة منها الولايات المتحدة ، فرنسا ، إيطاليا ،ألمانيا ، بلجيكا، السويد ، وبريطانيا ، وحقق أرباحاً جيدة فما الذي فعله هذا الفيلم ليستحق كل هذا ؟
بانورامية الأحداث
يسلط الفيلم الذي أخرجه وكتبه الموريتاني “عبد الرحمن سيساكو” الضوء على غزو مدينة “تمبكتو” في مالي من قبل مجموعة من المتطرفين الذين فرضوا أفكارهم ونفذوا قناعاتهم بالقوة ، وجزء من السيناريو مُستلهم من وقائع حدثت بالفعل حيث تمّ إحتلال “تمبكتو” لمدّة عام تقريبًا في 2012 من قبل القاعدة “في الفيلم يرفعون أعلام داعش” قبل أنّ تتحرر المدينة منهم بتعاون حكومة مالي مع القوات الفرنسية بداية عام 2013 .
لم يعتمد الفيلم في سرد أحداثه على القصة الرئيسة بشكل أساسي بل عمد الى عرض أحداث ، وتصرفات قام بها المتطرفون في المدينة ، تم سردها بشكل بانورامي ، وحاول السيناريو خلال ذلك الرصد لتلك الأحداث فضح تناقضات بعض أفراد تلك الجماعات ، وعدم قناعتهم بما يفرضون على سكان المدينة من قرارات وأوامر ، فهم يمنعون لعب كرة القدم ، ويجلدون شاباً بسببها في الوقت الذي تتجادل فيه مجموعة منهم عن اللاعب زيدان ومهارته ومقارنة مع ميسي وكيف فاز الفريق الفرنسي ، ويدخن أحد قادتهم وهو عبد الكريم”ابيل جعفري” بالخفاء بينما يمنعون الناس من التدخين ، كما أنه يحاول التقرب الى زوجة كيدان “ابراهيم احمد ” في الوقت الذي يمنعون الفتيات من الإختلاط بالرجال،ويسجنون بائعة السمك لأنها ترفض إرتداء القفازات التي تعيقها عن عملها ، كما يجبرون فتاة على الزواج من أحدهم بدعوى حق الولاية عليها بإعتبارهم الحاكمين في المنطقة ، ولهم حق الولاية ، ويرجمون ويقطعون الأيدي بلا بينة ، كما يمنعون عزف الموسيقى والغناء ، لكنهم في مشهد فيه مفارقة ذكية ، يترددون في مداهمة بيت يعلو فيه العزف والغناء لأن القصيدة التي تغنيها المغنية داخل البيت قصيدة “قل للمليحة في الخمار الأسود” وهم يعتقدون أنها من قصائد مدح الرسول (ص) ” فهي حلال إن ثبت ذلك “!، وفي مشهد جميل يظهر فيه شاب كان يعزف موسيقى الراب ،وتركها بعد توبته وحمل السلاح معهم، يتحدث هذا الشاب الى الكاميرا عن توبته وتركه لحياته القديمة ، ويحاول المصور أن يجعل حديث الشاب مقنعاً ، لكن عيني الشاب ، ونبرة كلامه تقول غير ذلك ، فتفشل محاولاته في إظهار تلك القناعة فهو يتحدث الى الكاميرا بإنكسار وحزن واضحين ، وهكذا يستمر الفيلم على هذه الوتيرة ،لكن بالتأكيد يحتاج الفيلم الى القصة التي تُمثل العمود الفقري فركز الكاتب على قصة لمربِّي ماشية من الطوارق يدعى “كيدان ” الذي لايشغل باله غير ماشيته وعائلته المكونة من زوجته وإبنته ، وهو يصرّ على العيش في قرية هجرها أهلها ، تدخل بقرة مميزة من بقرات “كيدان” في شبكة صياد سمك فيعمد الى قتلها، وهذا يثير غضب “كيدان” فيقتله في مشاجرة بينهما في دفاعه عن نفسه بعد أن هاجمه الصياد “في مشهد كان فيه التصوير بارعاً” ، فيحكم المتطرفون عليه بالموت ، ولاتنفعه توسلاته بهم وتمسكه بحياته لأجل إبنته ، وقبل التنفيذ تحضر زوجته فيركض “كيدان “بإتجاهها فيطلقون النار عليهما ويردياهما معا .
الهرب نحو المجهول
يبدأ الفيلم بمطاردة المتطرفين لغزال يحاول الهرب من قبضتهم ، فيما يأمرهم قائدهم بإجهاده خلال المطاردة “فهو لايريد قتله بل أسره” ثم يطلقون النار في المشهد الثاني على آثار وتماثيل تُمثل مدينة ” تبمكتو” التأريخية للمتعة وتعلم التصويب في إشارة الى همجيتهم ، ويعود مشهد مطاردة الغزال في المشهد الأخير من الفيلم ،لكن هذه المرة تظهر أيضاً إبنة “كيدان” وهي تركض الى المجهول لأنهم قتلوا والديها فيما يظهر الطفل “إيسان” وهو راعي أبقار “كيدان” راكضاً أيضاً نحو المجهول ، كما يهرب سائق الدراجة الذي نقل زوجة “كيدان” الى ساحة إعدام زوجها ، فيقرر المتطرفون قتله ، كثف المخرج تلك اللقطات في مشهد جميل للتعبير عن حال المدينة ، فالجميع يهرب من قدره ، كما حفل الفيلم بمشاهد رمزية كمشهد لعب شُبان المدينة كرة القدم بلا كرة ، ويدخل حمار “ظهر في أكثر من مشهد” الى الملعب ، كما تظهر عجوز غريبة الأطوار تحمل ديكاً في الكثير من المشاهد ، تتصرف على هواها فتقطع في مشهد الطريق على المتطرفين ، وتضحك منهم بإستهزاء ربما وضع الكاتب هذه الشخصية للتذكير بأصل تسمية المدينة وهي لعجوز إسمها “بكتو” كانت تسكن هناك قبل أن تتحول الى مدينة .
الفيلم يُثبت المقولة الشهيرة التي تقول أن العالمية تأتي من المحلية ، فكلما كانت قصة الفيلم موغلة في المحلية، وتطرح نبض الشارع ، ومعاناة الناس كلما كان أقرب الى نفوس المُشاهدين على مستوى العالم ، فهم يريدون أن يعرفوا مايحصل فعلاً بلا تزويق أو رتوش أو حتى مبالغات قد يلجأ اليها صانع الفيلم من خارج الحدود ، فمهما حاول الولوج الى الحقيقة فسيكون قاصراً عن التعبير عنها، فهو لم يعش تلك المعاناة ولم يكتو بنارها .
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC