تتميز المعرفة بالشمولية وقدرتها على إيجاد جيل يتميز بالقدرة على التفكير والتحليل والإبداع، بينما العلم يكون أقرب لمصطلح science، فالمعرفة رغم توسع تعاريفها في المراجع اللغوية والفلسفية بسبب الاشتغال الغربي الكبير على نظرية المعرفة إلا أنني في هذا المقال لا أسعى إلى إيجاد تعريف جديد للمعرفة بل محاولة إظهار مدى الغشاوة التي نعاني منها بسبب جعلنا للعلم مادة استهلاكية وتغييب حقل المعرفة حتى عند اشتغالنا في حقل العلم.
فلقد عاشت المجتمعات العربية فترة من الفقر والجهل وصاحب ذلك انقطاع عن العالم وهو ما يعني التراجع إلى الوراء في عدد من الأنماط الحضارية وعندما استيقظت الدول العربية وبالتحديد الخليجية واطلعت على مجريات العالم كان ذلك بفعل النفط أولا والتكنولوجيا ثانيا، وهذا ما أدى إلى تكون ثقافة استهلاكية جعلت من الشخص يعيش حالة من التباين بين الواقع والثوابت التي تربى عليها، وبسبب قدرة الإنسان العالية على التكيف استطاع أن يجعل من التكنولوجيا التي وفرها الواقع أداة استهلاك فأصبح يتعامل مع الواقع كقيمة استهلاكية لا أكثر، فهو مستهلك لما تنتجه العلوم الحديثة ومستخدم لها، لذا لا غرابة أن يوظف العلوم التي يدرسها في الجامعات كمادة استهلاكية فهو ينظر إلى العلوم كمادة نفعية فتجد مثلا طبيبا يعالج المرضى لسنوات عديدة ويفهم أننا لأجل أن نشخص مريضا قد يكون مصابا بنوع معين من السرطان نقوم بخطوات معينة ثابتة، فهو يفهم من المرض خطوات ثابتة فإذا ما قيل له إن المريض قد يكون مصابا بسحر أو عين أو مس فالأمر يكون ممكنا إلى حد كبير، وذلك لأنه لم يفهم من علم التشخيص إلا الخطوات والأدوات ولم يتبنَ المرض والإنسان كمعرفة، لذا لا غرابة أن تجد طبيبا يقول لك من الممكن أن يكون المريض مصابا بالعين، فهو طوال سنوات دراسته وعمله لم يتبن هذه القضية كقضية معرفية بل يستخدم العلم كمادة استهلاكية لعلاج المرضى لا أكثر، وتجد قانونيا يعرض لك المواد القانونية ويشرحها لك ويعرض لك رسالته في الدكتوراة وتجده في الوقت نفسه يؤمن بأن القانون أداة حكم وضعية لا أكثر ودراسته للقانون إنما لأجل تطبيقها في القضايا التي يمر عليها ويجد أن القوانين تخالف الشريعة مخالفة صريحة، وفي هذا الامر ما يثير استغرابك، حيث عند ذكر الشريعة ينتفي العلم الذي قضاه في الدراسة والتطبيق لأنه استخدم العلم كمادة لممارسة الوظيفة ولم يتساءل يوما حول علاقة القانون بالعدل والشريعة فلم يوظفه كمادة معرفية، هذه الفجوة الكبيرة بين العلم كأداة وبين المعرفة يتطلب منا وقفة ثابتة تجاه فلسفة العلم في بلادنا وإلا كيف يقول لك موظف كباحث في مؤسسة حكومية متخصص في البيئة والجغرافيا أطالب بإغلاق تخصص الجغرافيا لعدم وجود وظائف متجاهلا العلوم والدراسات والانفجار المعرفي في هذا الحقل الضخم وهو ابن التخصص وممارس له.
كل ما تنشره "أثير" يدخل ضمن حقوقها الملكية ولا يجوز الاقتباس منه أو نقله دون الإشارة إلى الموقع أو أخذ موافقة إدارة التحرير. --- Powered by: Al Sabla Digital Solutions LLC