ترجمة خاصة- أثير
نشر الكاتب جوزيف كشيشان الذي أجرى حوارات سابقة مع صاحب الجلالة السلطان قابوس -حفظه الله- ومسؤولين عمانيين مقالا عن السلطنة وسياستها الخارجية التي سماها ” الفريدة من نوعها”.
وقامت “أثير” بترجمة المقال وتنشره للقارئ الكريم بالنص التالي:
لكي نفهم السياسة الخارجية لسلطنة عمان علينا أن نستوعب آلية عملها، فسلطنة عمان تملك مهارة دبلوماسية تجعلها قادرة على تحقيق التوازن بين المصالح المتباينة وتجاوز الاختلافات والبحث عن طرق تبادل المصالح وجعلها مفتوحة دوليا حتى في وسط الأزمات، في حين أن دول الشرق الأوسط الأخرى تحركها الأيدلوجية قصيرة المدى، لذا انتهجت عمان سياسة خاصة بها واعتقدت بأن التفاوض السلمي والأهداف بعيدة المدى هي من تحقق الأمن والرخاء لبلدها.
وتعد سلطنة عمان ذات سيادة مستقلة، فقد قطعت شوطا كبيرا في علاقات السياسة الخارجية منذ عام 1970م عندما تولى السلطان قابوس الحكم في فترة لم تكن تتسم بالصراع والعداوة في المنطقة وحسب بل كانت تعاني أيضا داخليا من الاضطرابات السياسية والحروب الأهلية والتخلف الشديد، فلقد غير قابوس عمان خلال 25 سنة من دولة منعزلة وغير مستقلة إلى دولة تقود الدبلوماسية في الشرق الأوسط والعالم.
فما هي عناصر رؤية قابوس التي تجعل من سياسته فريدة وناجحة؟
ما هو واضح بأن قابوس ينتهج الواقعية في السياسة الخارجية، فهو يسعى إلى تقديم حسن النوايا تجاه الدول الأخرى، ولا يستبعد بأن يكون الأعداء السابقون شركاء محتملين وكذلك فإنه لم يقم بخطوات غير مدروسة، فهو على الرغم من أن سياسته لا تحظى بشعبية عند الحكام العرب إلا أنها تخدم الأهداف طويلة الأجل لتأمين الاحتياجات السياسية والاقتصادية والعسكرية لسلطنة عمان.
العمل على مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، واحترام القانون الدولي، وكذلك الالتزام بسياسة عدم الانحياز، شجعت على قيام قابوس بالتسوية والحل السلمي وتشجيع الدول المتحاربة على إيجاد قواسم مشتركة وقبول المفاوضات، هذه السياسة التي رسمتها عمان واضحة من البداية وذلك للحفاظ على أفضل الشروط الممكنة وعدم قطع العلاقات الدبلوماسية، وإذا أدركنا الجانب التاريخي والجغرافي لعمان والتنوع السكاني وموقعها الاستراتيجي يمكننا فهم دور السلطنة أثناء الحرب الباردة وبعد الحرب خصوصا وأنها نقطة فاصلة بين الشرق والغرب، لذلك اتبع قابوس سياسة الحصول على العلاقات السياسية ذات الفائدة الأمنية على المدى الطويل.
لقد جعل والد قابوس علاقة عمان محصورة بالهند وبريطانيا وتجنب الاتصال بالدول المجاورة، لكن قابوس حين تولى الحكم في عمان عام 1970م كان يحمل فكرة عمان قوة إقليمية في المنطقة بنهج مغاير، وذلك من خلال إقامة علاقات مباشرة مع الدول العربية المجاورة عن طريق الانضمام إلى جامعة الدول العربية والأمم المتحدة عام 1971م وبذلك أنهى قابوس العزلة الطويلة للسلطنة ووضع عمان في خارطة العالم العربي بطريقة واقعية تضمن له أمن الدولة في المنطقة، هذه الخطوة والكثير من الخطوات التي انتهجها قابوس تأتي استجابة لعوامل داخلية وخارجية أسهمت في تشكيل رؤية سياسية خارجية فريدة من نوعها على امتداد أربع مراحل من عام 1970 إلى عام 1994
المرحلة الأولى: توحيد الدولة (1970-1975) حيث السعي إلى إقامة علاقات سياسية أكبر مع العالم العربي وذلك لإضفاء الشرعية للدولة وإبراز استقلاليتها عن بريطانيا وذلك لتحقيق الوحدة الداخلية في التعامل مع الاضطرابات السياسية في الشمال والقضاء على الشيوعية في الجنوب والتي كانت تهدد السلطنة منذ عام 1965م وكذلك تحسين ظروف الحياة المعيشية في السلطنة.
أهم إنجازات السلطنة في العلاقات الخارجية في هذه الفترة كانت متعلقة بإيران، فلقد فرضت إيران هيمنتها في المنطقة من خلال سيطرتها على جزيرتين تابعتين لدولة الإمارات العربية المتحدة، عمان في هذه الفترة كانت تملك القليل من الموارد لتحل مشاكلها الداخلية فكيف بمشاكل المنطقة، ولكن على الرغم من ذلك فإن قابوس استطاع أن يستعين بالشاه للحصول على مساعدات عسكرية إيرانية لمكافحة التمرد في ظفار، أضف إلى ذلك وقع اتفاقية الحدود الإيرانية العمانية في مضيق هرمز، وبذلك حقق قابوس من خلال علاقته السياسية مع الشاه كل من الاستقرار الداخلي وتأمين الحدود مع إيران والتي أصبحت تعامل عمان على قدم المساواة.
المرحلة الثانية: المرحلة الانتقالية (1976- 1980) وقد ركزت هذه المرحلة على الجانب الاقتصادي من خلال تلبية الاحتياجات المحلية خصوصا بعد انتهاء حرب ظفار والاضطرابات الداخلية، وقد استمرت السلطنة في توثيق علاقتها مع جيرانها وتلقت الدعم من عدد من دول الخليج، إلا أن هذا الدعم لم يمنع عمان من أن تكون لديها وجهة نظر مستقلة حول جهود السلام التي يجريها الرئيس المصري أنور السادات مع إسرائيل في عام 1977 وكذلك دور السادات عام 1978 في اتفاقية كامب ديفيد، حيث كانت عمان إحدى الدول العربية الثلاث التي لم تقطع علاقتها الدبلوماسية مع القاهرة التي قامت بالتطبيع مع إسرائيل، ولم تحضر عمان قمة بغداد لرفضها إدانة مصر وهذا الفعل كان مستنكرا من قبل دول الخليج
وفي عام 1979 عندما أطيح بحكم الشاه في إيران من قبل آية الله الخميني أبقى قابوس على علاقته المتوازنة مع إيران، وقد وضع قابوس مقترحا لحماية مضيق هرمز بتكلفة 100 مليون دولار لكن دول الخليج الخمس رفضت الفكرة، لذلك اتجه قابوس في عام 1980 لإقامة جهود أمنية مشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية وبالتالي تكون أول اتفاقية بين دولة عربية والولايات المتحدة، هذا الاتفاق العسكري مع قوة غربية يعكس استعداد قابوس للقيام بكل ما هو ضروري من أجل ضمان أمن السلطنة على المدى الطويل.
الفترة الثالثة: مرحلة النضج السياسي (1981- 1985) شهدت هذه الفترة حربا بين دولتين هما من أكبر الدول في المنطقة وهي العراق وإيران، هذا الصراع بالإضافة إلى توترات أخرى في المنطقة أدت إلى تكلل جهود قابوس منذ فترة طويلة بالنجاح وإقامة دول مجلس التعاون الخليجي، وبالتالي اجتمعت الدول الخليج الست معا مما وفر الأمن لدولته في منطقة شبه الجزيرة العربية، وعلى الرغم من مشاركة السلطنة في جميع الأنشطة الأمنية الإقليمية كجزء من دول الخليج إلا أن عمان لم تميل إلى أي طرف في الحرب العراقية الإيرانية، وكذلك حافظت السلطنة على علاقتها مع الدول الغربية، ولقد دعا قابوس أيضا إلى إقامة محادثات فلسطينية إسرائيلية مباشرة وذلك لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وهو موقف لا يحظى بتأييد في العالم العربي لكنه موقف مبرر للحصول على أطول فترة ممكنة من الأمان في المنطقة.
المرحلة الأخيرة: التقدم للأمام (1986- 1994) في هذه الفترة تم الاعتراف بقابوس كشخصية إقليمية مؤثرة في القضايا الأمنية للمنطقة، وبعد غزو العراق للكويت شاركت السلطنة جهود الأمم المتحدة في التحرير، وفي الوقت نفسه حافظ قابوس على علاقاته الدبلوماسية مع كل من العراق والكويت بل وحاول الإسهام في إيجاد فرص لحل الأزمة بين الدولتين وعندما فشلت الجهود اضطرت السلطنة أن تتخلى عن سياسة عدم الانحياز والوقوف مع سيادة القانون ضد حكومة عربية.
وفي هذه الفترة أيضا سعى قابوس جاهدا إلى جلب العراق وإيران إلى طاولة التفاوض بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية لكن جهوده لم تكلل بالنجاح، كما أنه في عام 1994 دعا ممثلين من الحكومة الإسرائيلية إلى حضور مؤتمر حول تحلية المياه، تلا ذلك دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق رابين لزيارة عمان وهي الزيارة العلنية الأولى لرئيس وزراء اسرائيلي لدولة خليجية في فترة كانت دول الخليج لا تقيم أي علاقات مع اسرائيل، وبالتالي يقف مرة أخرى قابوس متفردا في موقفه.
حقق قابوس الكثير من الأهداف خلال 25 سنة واتضحت رؤيته حول عمان ورؤى أخرى تسعى إلى جلب الأمان في المنطقة، أبرزها إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج عام 1981 وتوقيع آخر معاهدات الحدود مع الدول المجاورة عام 1993، وذلك لهدف أساسي آخر هو تنمية عمان داخليا ورفع المستوى المعيشي من خلال تلقي أنواع مختلفة من المساعدات الخارجية، ولقد سعى النظام في السلطنة إلى فتح مسارات لمشاركة المواطنين في الحكومة من خلال مجلس الشورى ووجود أعضاء إناث، حيث أشار قابوس إلى أن للمرأة دورا مهما جدا في التطور الاجتماعي والسياسي حيث نوه إلى أن المرأة والرجل شركاء في التنمية وهنا تنعكس نظرة قابوس الواقعية فهو لا يريد استبعاد نصف قدرات الوطن وذلك كي يتحقق الازدهار والمحافظة على الانسجام الداخلي وقوته.
عمان اليوم مستقرة داخليا ومزدهرة اقتصاديا وأمة ذات ثقل في علاقتها الخارجية إقليميا وعالميا، واقعية قابوس في جعل السلطنة تكون في هذه المكانة تعكس رؤية العمانيين في فهم الدين، حيث ذكر قابوس في خطابه في العيد الوطني عام 1994 فضائل ماضيهم طالبا من العمانيين رفض أسباب التعصب الديني وأن يكونوا متسامحين مؤكدا أن التطرف في فهم الدين يؤدي إلى التخلف وانتشار العنف والتعصب، فمن هذا التراث يأتي المبدأ الأساسي لنهج قابوس المتسم بالثبات والاستقرار والسعي إلى الأمن والازدهار من خلال الوسائل السلمية.
الكاتب: جوزيف كشيشان
المصدر:
http://www.rand.org/pubs/research_briefs/RB2501.html