من مسقط إلى بغداد.. رحلة “اللاعودة” عادت بعناقٍ وقُبَل

من مسقط إلى بغداد.. رحلة “اللاعودة” عادت بعناقٍ وقُبَل
من مسقط إلى بغداد.. رحلة “اللاعودة” عادت بعناقٍ وقُبَل من مسقط إلى بغداد.. رحلة “اللاعودة” عادت بعناقٍ وقُبَل

أثير- المختار الهنائي

أثير- المختار الهنائي

أعلن قبطان الطائرة أن رحلتنا التي انطلقت من مسقط إلى بغداد قد انتهت، وحطت الطائرة بسلام على أرض الرافدين.

في تلك اللحظة تفجرت مشاعر جياشة ، وبخاصة حين استنشقت هواء بغداد لأول مرة، ممتزجة بمشاعر الاشتياق لهذه البقعة التي كانت زيارتها من أحلام اليقظة، مع مشاعر الحب التي لم أعرف سببها إلا حين غادرت المطار بعد عدة أيام، وأخرى امتزجت بروح المغامرة، كما وصف بعض الأصدقاء رحلتي، بشيء من المزاح، بأنها رحلة اللاعودة، ليس بناءً على تجربة ومعاينة للواقع، بل بسبب ما تبثه بعض وسائل الإعلام العربي في وصف هذه الأرض بأنها مستنقع يتكاثر فيه العنف، والحرب، والإرهاب، ولا تخلو أي بقعة فيه من الاقتتال الطائفي والأهلي.

بدأت الفكرة حين وصلتني دعوة لحضور قمة الشباب العربي في بغداد تحت رعاية جامعة الدول العربية مع زملاء من البحرين والكويت، ولم تكن مقنعة لبعض الأصدقاء ممن نصحوني برفض الدعوة بسبب تدهور الأوضاع الأمنية، وما إن بدأتُ السير من مطار بغداد باتجاه المنطقة الخضراء التي ستكون مقر إقامتنا، حتى وجدت أن روائح الحياة تفوح من كل شوارع بغداد، ولا يوجد أي أثر لما حذروني منه ، سوى انتشار بعض نقاط التفتيش التي توحي للزائر بحجم الجهود التي تقوم بها القوات العراقية لحفظ الأمن والأمان هناك.

قمة الشباب العربي جمعت أكثر من 30 شابا عربيا من مختلف الدول العربية تحت قبة واحدة للحديث عن الإرهاب، وتأثيره على الشباب العربي. في حفل الافتتاح ألقيت كلمة قلت فيها إن محاربة الإرهاب ليست عملية يمكن القيام بها وتنتهي بانتهائها، بل إن المُشكلة الأساسية، والرئيسة التي يجب أن يتيقن الجميع منها هي الاستمرار في زرع الكراهية بين أفراد المجتمع الواحد، وبث الأفكار الخبيثة والتفرقة بين مكوناته ، كما أن التدخلات الخارجية في شؤون الدول هو أشد المعظلات، والمعظلة الأخرى هو الاستبداد السبب الرئيس والأساسي بكل أحداث مجتمعاتنا، متمنين أن تتحول مجتمعاتنا لمجتمعات تحترم الإنسان كقيمة حضارية، وأن تعلو قيمة المواطنة، كما أن احترام حقوق الإنسان وتقديسها هو المخرج الوحيد لاستقرار مجتمعاتنا التي تفتقر لهذه القيمة الحضارية، وأن ما يحصل اليوم في بعض مجتمعات المنطقة ما هو إلا صدام بين عقليتين: الأولى تمثل عقلية الاستبداد، والثانية تطلعات الشعوب للحرية، والديمقراطية. وأكدت بأن الحرية والإنسانية ستنتصر رغماً عن أنف الاستبداد والإرهاب، وستتحرر شعوب المنطقة آجلاً أم عاجلاً مهما دفعت من دماء وأرواح.

وكشابٍ عماني قدِم من بيئة لا يعرف الإرهاب فيها طريقا- والحمد لله- نلت معاملة خاصة تقديرا للمواقف المعتدلة للسلطنة، ودعواتها المتكررة للسلام، وما أثار دهشتي مدى حميمية الاستقبال الذي لمسته من أعضاء مجلس الشباب العراقي والمتطوعين الذين حرصوا على نجاح القمة، فتحقق لها هذا الهدف قبل بدايتها بمجرد جمع هؤلاء الشباب من مختلف الدول العربية، والذي نعدّه نجاحا باهرا في هذه الأوضاع التي يمر بها العراق وقلبه بغداد التي عُرفت بمدينة السلام في العصر العباسي وما زالت صامدة تمد يد السلام رغم الحروب التي عصفت بها طوال مراحلها التاريخية، ورغم ما مرت به منذ بداية الحروب في العصور العباسية والأموية والصفوية، ثم العثمانية، والحرب الغربية في العصر الحديث، وحين دمرها المغول في القرن الثالث عشر الميلادي وخربوا كل ما قابلوه من حضارة وتاريخ وحرقوا المؤلفات القيمة من صفوة علماء بغداد العلمية والأدبية، ورموا ما تبقى في نهري دجلة والفرات ودمروا كل المساجد،والمكتبات، والمستشفيات حتى ظن البعض في ذلك الزمان أن بغداد المنكوبة لن تعود مرة أخرى كما كانت، بعد أن استباحوها وقتلوا كل نفس صادفتهم دون تمييز طائفي، أو مذهبي، بل وحرقوا كل ما صادفوه، حتى قال بعض المؤرخين إن عدد القتلى بلغ مليوني إنسان.

عادت بغداد مرات أخرى رغم الواقع المدمر واليوم تعود مرة أخرى بعد أن تآمر عليها القريب والبعيد، واليوم قطعت خطوة كبيرة في حربها على الإرهاب الذي استباح العراق منذ سنوات، بين الاحتلال والحروب الطائفية، والإرهابيين القادمين من الخارج والذين اتخذوا من العراق قبلة لهم، ولكن اليوم أصبح شعب العراق تحت لواء واحد لا تفرقهم مذاهب، ولا طوائف، ولا أعراق، ولا اختلاف ديانات، بل إن هذا التنوع أصبح اليوم سمة واضحة لمجتمع متكون من أجزاء مرتبطة في جسد واحد.

وهذا ما أكده رئيس مجلس الوزراء العراقي الدكتور حيدر العبادي في ختام القمة، إذ فاجأنا بحضوره، وألقى كلمة أكد فيها أن “بغداد الكريمة والعزيزة على الجميع صامدة في وجه الهجمة الإرهابية التي أرادت لحضارتها وتكويناتها العريقة ان تدمر وأن تعيش حالات الضياع والصراع.

وفي مقطع مرئي عرضه مجلس الشباب العراقي عن التنظيمات الإرهابية في العراق جاء أنه في 2014م فقد العراق حوالي 28% من أراضيه بيد “داعش” لكن، اليوم لا يحتل الإرهابيون سوى 6% من الأراضي المأهولة بالسكان، وهو تقدم كبير يوحي بانتهاء الإرهاب في الأراضي العراقية قريبا، رغم ذلك تصور لنا وسائل الإعلام أن العراق حاليا هو منطقة منكوبة بالكامل، فتهول لنا حجم الخسائر في الأرواح والممتلكات، وهي بلا شك واحدة من الحروب التي يتعرض لها العراق.

ولا تكتفي الحرب الإعلامية من تشويه صورة الأمن العام والأهلي في العراق بل إنها تجاوزت ذلك في إيهام المتلقي العربي أن حرب تحرير المناطق التي تحتلها التنظيمات الإرهابية من طائفة ومذهب واحد، وهو عكس الواقع تماما، ومن خلال لقائي بمجموعة من الأصدقاء والمشاركين من مختلف مكونات الشعب العراقي الدينية والمذهبية والإقليمية أكدوا أن لهم أخوة وأصدقاء وأبناء مرابطون على ثغور العراق كافة لتحريرها من أيدي الإرهاب والمتآمرين.

وحين نتحدث عن التآمر الذي وللأسف يحصل من القريب قبل البعيد، هناك تقرير صادر من مجلس الشباب العراقي يوضح أن هذه المنظمات الإرهابية يتم تمويلها من أثرياء في الشرق الأوسط، كما أن النفط العراقي الذي تستولي عليه هذه الجماعات يتم شراؤه من قبل دول مجاورة للعراق مقابل السلاح ، كما أشار السيد عمار الحكيم رئيس التحالف الوطني العراقي في لقائي معه وتحدث أنه لولا التدخلات الخارجية لما أصبح العراق قبلة للإرهابيين.

رغم كل هذا ما تزال بغداد تحلّق بأمنها بعيدا نحو حضارتها وتاريخها الزاخر بين العلم والأدب والفلسفة، وما تزال شوارعها تنبض بالحب والأمل والرغبة في الحياة الآمنة، وما يزال شارع المتنبي عاصمة بغداد الثقافي يصدح بالشعر والثقافة منذ أن بدأ في العصر العباسي، ولم يتوقف مثقفو بغداد وشعراؤها من التردد عليه واستمرار الأنشطة فيه حتى قبل التحسن الأمني الذي تشهده العاصمة العراقية التي تحاول أن تضمد جراحاتها وتنهض من جديد.

وما يزال الفرد العراقي يضرب أروع الأمثلة في الأخوة والترابط، وما تزال الروح المفعمة والحب تراها ترفرف في شوارع بغداد التي جمعت ثلة من الشباب العرب من مختلف البلدان والأطياف، عرفت حينها تفسيرا لمشاعر الحب التي شعرت بها عند وصولي أرض المطار، والتي تحولت إلى عناق، وقُبَل، ووعدٍ بلقاء قادم.

Your Page Title