سعيد الصقلاوي
شاعر وباحث – سلطنة عمان
يتبادل كثير من المؤلفين من مؤرخي الموسيقى و الشعر و منظريهما و من بينهم أساطين الصنعة من مؤلفي الموسيقى و مبدعي الشعر أنفسهم مصطلحين يتعلقان بالتأليف الإيقاعي الموسيقي رائجين في الأدبيات الموسيقية و الشعرية و هما التركيب أو المزج الإيقاعي الموسيقي. و نرى أن التركيب يحدث في أول الأمر من تجاور و تلاقح الأصوات و هي مرحلة التركيب. و لذلك أطلقنا على هذه العملية مصطلح الأيض الموسيقي، لأن في هذه المرحلة يتم تجاذب و تجاوب الأصوات مع بعضها البعض، و قبولها و انسجامها و عدم تنافرها.
أما المرحلة الثانية من ذلك – و هي مرحلة المزج- فنطلق عليها مصطلح الكيمياء الموسيقية. و في هذه المرحلة يحدث الإندغام و الإندماج و الإتحاد، أي يمتزج التركيب الحادث بين الأصوات في شكله الإيقاعي مكونا بنيات إيقاعية سواء كانت ثنائية أو ثلاثية، أو سواء كانت بوحدات زوجية أو فردية. فتنشأ عنه إيقاعات بسيطة أو عرجاء كما أسلفنا.
و لذلك تنبه مؤرخو و منظرو الموسيقى و الشعر بشكل رئيس و من منهم – بعد الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي الف بجانب العروض كتابي الإيقاع و النغم- الفيلسوف الكندي و الفارابي و ابن سينا و إخوان الصفا و صفي الدين الأرموي و صفي الدين الحلي و غيرهم. و قبلهم من الفراعنة و السومريين و البابليين و اليونان كأفلاطون وأرسطو أنكسيس و أرسطو طاليس.
لقد أجمعوا على العلاقة الوثيقة بين الشعر و الموسيقى. و يرى إخوان الصفا الذين شددوا على الأصول الواحدة للإيقاعين الشعري و الموسيقي، إذ يشيرون إلى أن “التأليف متى لايكون على النسبة لم يمتزج، و لم يتحد، و من أمثال ذلك أصوات النغم الموسيقية[1]“. و يؤكدون على أهمية وجود النسبة و التناسب بين الأصوات الممزوجة ” و متى لا يكون التأليف على النسبة لا يمتزجان و لا يتحدان و لا يستلذهما السمع، فمتى ألفا على النسبة إئتلفا[2] و صارا كنغمة واحدة لا يميز السمع بينهما و تستلذها الطبيعة، و تشربها النفوس[3]“.
و الإيقاع الشعري ليس بعيدا عن هذا السياق فهو أصوات في الكلام تكون بنيات إيقاعية مؤلفة على النسبة. و هذا يعني أن الإيقاع الشعري أيضا مؤلف على النسبة. و يكون الكلام موزونا ” إذا كان على النسبة[4]” يلذ في السمع عن النثر “الذي ليس بموزون لما في الموزون من النسب[5]“. و مثال على ذلك النسبة الموجودة في الأسباب و الأوتاد و الفواصل المكونة للبنيات الإيقاعية في الجمل العروضية الموسيقية. و هذه النسب عروضيا تبدأ من الحركة المفردة مرورا بالسبب ثم الوتد و انتهاء بالفاصلة. تمثل “الحركة كالواحد، و السبب كالإثنين، و الوتد كالثلاثة، و الفاصلة كالأربعة و سائر نغمات الغناء مركبة منها[6]“.
و من البديهي أن أحسن المؤلفات الفنية و التصميمات و التخطيطات المعمارية هي تلك التي ألفت و صممت و خططت على النسبة الأفضل. و تعتبر نسبة [7]“المثل، و المثل و النصف، و المثل و الثلث، و المثل و الربع، و المثل و الثمن” هي النسبة الفاضلة. و هي نسبة تبنتها فنون الحضارة الإسلامية . و هناك نسب أخرى كالمثلث الفرعوني و النسبة الذهبية و غيرها. فالإنسان و الحيوان و النبات و كل الكون بنجومه و أفلكه و مياهه و مناخه و طبيعته المنظورة و غير المنظورة كلها مؤلفة على النسبة متآلفة و منسجمة.
و على ذلك فإن النسبة التأليفية تؤلف بين الأصوات الحادة و الغليظة، الجهرية و الخفيضة، اللينة و القوية، سرعة و بطأ، ثم تمزجها فتوحدها و تصير بنية إيقاعية تكون لحنا موسيقيا موزونا تطرب له الأسماع و تستلذه الأرواح و تفرح به النفوس و تسعد به العواطف و تأنس به المشاعر و ترتاح إليه الأحاسيس. أما إذا لم تتوفر النسبة التأليفية يختل المزج فتتنافر الأصوات و تتباين و لم تأتلف (تتآلف) و بالتالي تصير نشازا و لا تستلذها المسامع، و تمجها النفوس، و تعافها الأرواح.
و لو تسمعنا إلى الغناء بإمعان، و نظرنا إلى المدونات الموسيقية، لتبين لنا أن الغناء يتم و يتحقق وفق اللحن المبتدع و المنشأ على النسبة الصحيحة الفاضلة. و أن “الغناء مركب من الألحان، و اللحن مركب من النغمات، و النغمات مركبة من النقرات و الإيقاعات، و أصلها كلها حركات و سكون، كما أن الأشعار مركبة من المصاريع، و المصاريع مركبة من المفاعيل، و المفاعيل مركبة من الأسباب و الاوتاد و الفواصل، و أصلها كلها حروف متحركات و سواكن[8]“.
و هذا يبين لنا مدى تواشج الإيقاعين الشعري و الموسيقي. و هو ما يثري إحساسنا و انفعالنا و تفاعلنا و متعتنا بالموسيقى الداخلية. و يدفعنا فضول البحث إلى التعرف على الجوانب الإبداعية، و التفاصيل المكونه لسياقها، و الأمشاج النابضة بروح الحياة في موسيقاها، وذلك من خلال تفهمنا لكيمياء الموسيقى الداخلية. و إحساسنا بكمية التأثيرات النفسية و كيفيتها، و إدراكنا لماهية الفكر وروحانية الوجدان عبر ألوان التعبير الموسيقي، و من خلال الصورة الصوتية التصويرية التي تملؤنا خيالا و فتونا و ابتهاجا.