قراءة في تجربة ” وكأني لا أحزن ” للشاعر موسى عقيل
بقلم : جبريل السبعي
ناقد – السعودية
( 1 )
” وكأني لا أحزن ” : الديوان الثالث للشاعر السعودي موسى عقيل ، يقع في ( 116 ) صفحة من القطع المتوسط ، ويضم ( 19 ) نصا شعريا ، صدر عن دار الانتشار العربي في بيروت ، عام 1435هـ / 2014م .
يتجلى الواقع خلال ” وكأني لا أحزن ” صحراءَ تُلبس الغيابَ ساكنيها ، ذلك أنها عامرة بـ ” رمال الجهل ” و ” تُحرق أجساد العبيد ” فتترك أثرها القاسي في كل شيء . وقد استُقطب رمز ” السراب ” ليُضاف إلى الصحراء ، كما أنه يشير في عموم تجربة ” وكأني لا أحزن ” إلى معنى ” الغياب ” حيث تغدو الذوات عبر ” الواقع – الصحراء ” سرابا يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً .
( 2 )
ويميز تجربة ” وكأني لا أحزن ” وعي عميق بمأساة الواقع على المستوى الذاتي والجماعي ، أما الوعي الأول فيتجلى في الشعور بعدم القدرة على التعبير عن مكنونات الذات حيال واقعها ، الذي أرهقها بالجفاف والجهل والغياب ، والشاعر – حينئذ – لا يملك إلا أن يتوجع : ” رعد يحبسني كي أمطر وجعا / ورتابة ” . وحين يعتزم قول ما يجب قوله في مواجهة القبح الذي يغرق فيه الواقع ، فإنه لا يجد بدا من أن يتنبه لخطورة ما سيناله :
وما لك في السقيفة من سيحنو عليك
وفيك تأتمر السيوف .
وما لك في القصيدة من سيبكي عليك
وفيك تختلف الحروف .
هكذا يظل متوجسا دون أن يسرج ” خيول البوح ” ليشعل السراب – وحده – معبرا عنه ، وليظل ” من خلف سواد الأشياء يغني ” وفي هذا السياق يمكنني أن ألمح إلى رمزية ” الدم ” إذ يشير إلى ذلك الألم ، الذي يعانيه الشاعر على اختلاف صوره .
أما الوعي الآخر ، أي وعي الشاعر بمأساة الواقع على المستوى الجماعي ، فيتجلى أكثر ما يتجلى في إحساسه العميق بتكالب مفردات الواقع على جماعته ، وهي تحول دون أن تصل إلى مبتغاها :
ضاقت بنا الأرض،
و( الجوديُّ ) يمنعنا عن السفينة ،
والطوفان عن نوحِ !
هنا تنهار الجماعة عبر سياقات مدمرة ، لا تجعل لهم في إطار الواقع قائمة تقوم ” الهاربون إلى الحياة تشدهم طرق الهزيمة ” وهنا تنكفئ هذه الجماعة على نفسها ، لتفتش في داخلها عن ملاذها الآمن ” أوطاننا اختبأت فينا ” بعد أن وطئت الأقدامُ ” الواقعَ – الصحراء ” ليس إلا بحزن عميق ، وبأفئدة مجروحة .
( 3 )
والأمر لا يتوقف عند مجرد الوعي بالمأساة ، وإنما نلمح توقا إلى معرفة متى يمكن أن تنجلي الغمة ، بحصول إمكانية أن تتحقق الذات ، فلا تخاف وهي تنام في سرير النبوة ، وتلامس قضاياها ، وتحلم بخضرة صبرها ، وهطول مطر حنينها إلى رؤية ” مملكة السراب ” وقد اكتظت بالثمرِ ، والنماء :
ومتى أنام على سرير الخوف
لا تتقلب الكلمات في صدري ،
ولا شك يساورها ،
وتحلم أنها عادت بوجه الصبر أخضر .
وبأن أمطار الحنين تعابث الأنسام ،
والرمل الذي قد كان مملكة السراب
زها ،
وأثمر .
( 4 )
إن هذا التوق إلى أن يتبدل الحال ، وذلك الوعي بمأساة الواقع ، هما الدافع إلى ظهور مواقف الرفض ، متجلية عبر أشكال عديدة ، أولها ، الدعوة إلى قول ” لا ” . وإن أول ما يمكن أن يصدر عمن يملك حرية اختيار مصيره هو تلك الـ ” لا ” معبرا من خلالها عن وعيه ، وعن رفضه المحمل بطاقة التوق إلى الحياة :
قولي لهم مرة :
لاءات من سلموا بالموت ،
زهواْ على الأحياء ،
واختاري .
هذه الـ ” لا ” هي فاتحة الغضب ” دمي مطر يراودني / وبطن الجرح غائم ” وفاتحة الحياة كذلك ، وأشير هنا إلى أن ” المطر ” يحضر في سياق تجربة ” وكأني لا أحزن ” رمزا يناهض رموز القحط والغياب ، ولا غرو مادام الواقع ” صحراء غياب ” أو ” رمل جهل ” أو ” مملكة سراب ” . هنا يبدو ” المطر ” كما لو كان هو وحده الذي ” يذكر بالحياة ” و ” الأرض يبعثها الحنين الرطب من مطر ، وأشجان عميمة ” .
كما أن ذلك الرفض يتجلى – أيضا – فيما يمكن اعتباره تحريضا ، فالرفض لا يمكن أن يرقى إلى مرتبة التمرد ؛ ما لم يترجمه الرافض إلى بدائل مضادة ، وإلى تحرر من القيود التي تصم الإنسان بالخوف والعار :
يا بائعين اتقاء النار جنتهم ،
إني هناك ..
جحيمي بعض أوزاري .
ضعي التمائم يا عفراء ،
والتفتي إلي وجهك وجه الخوف ،
والعار .
عودي لصوتك ..
حظ الريح من لغة ما يبلغ السمع ،
مزمار لمزمار
هذا التحريض هو دعوة إلى اقتفاء أثر الحياة ، لتترك الأيام وشاح مغيبها ذاهبة للأمل البعيد ، ولتهرع الشمس – أيضا – في جحيم الوقت ، جاعلة من ضوئها ودفئها عناصر محتجة على الظلام ، واليباس :
من يقتفي أثر الحياة ؟
لتهرب الأيام تاركة وشاح مغيبها ،
كاللهفة العمياء للأمل البعيد .
والشمس تهرع في جحيم الوقت ،
تجعل ضوءها المحتج صعلوكا ،
وصحراء الغياب أشد إحراقا بأجساد العبيد
لم يبق في الصوت الكريم سوى الرثاء
ولا نرى للحلم ريف
لن تصبر الأرض التي تمتاح دائرة الفصول
ولا ترى إلا الخريف ..
( 5 )
إن هذه الرؤية الشعرية لا تقف عند وعيها بتلك المأساة ، أو عند توقها إلى الخلاص ، أو عند تحريضها على كسر القيود ، واقتفاء أثر الحياة المخلصة من غلواء الجهل والجفاف والغياب ، وإنما تتجاوز ذلك كله إلى استجلاء الفضاء الشعري ، الذي من شأنه أن يقدم عالما جديدا ، لا تشوبه منغصات الواقع ، وفوق ذلك تبدو خلاله الذات ، والطبيعة ، واللغة ، كما لو كانت خلقا آخر ، له من القدرة ما يمنحه الانتصار على قبح الواقع .
وفي البدء نرى ” نافذة الروح تجوب الأفق ” والشاعرَ يلفُّ ” حبلا على الأوجاع منتحيا إلى الضياء ” وباحثا – في نفس الوقت – عما يمكن أن يحقق مراده ، ولعله ابتداء وجد في اللغة ذلك المارد الذي يستطيع أن يقلب الموازين ، ويخلص الإنسان من جفاف غربته في صحراء الغياب :
يوشك مارد الكلمات
أن يجلو عن الأفواه غربتها ،
ويظهر .
كما أنه يؤنسن الأرض في هذا الفضاء الشعري ، ويبدو وطنه – هنا – كما لو كان أرضا بديلة عن الصحراء ، حيث إن هذه الأرض – الوطن تجيره ليس من الرياح العقيمة في مملكة السراب فحسب ، وإنما تتجاوز ذلك إلى إجارته – أيضا – من سماء ميتة يعيش بها – إن عاش – مغتربا وحيدا :
الأرض تصرخ حينما تحنو على الأقدام حافيةً ،
أجيركَ من سماء لا جناح بها ،
وأرياح عقيمة .
والحبيبة أيضا تبدو في هذا الفضاء الشعري ، تتمتع بالقوة التي تعينها على ” قتل ” غربة الشاعر ، لتعيد إليه روح روحه :
لا شيء يقتل غربتي ،
ويعيد روح الروح في ولهي الطفولي ..
إلا صفاؤك إذ يلوح على جلال مستحيلِ
وفي واقع الأمر فشعرية ” وكأني لا أحزن ” لا تنفك تعمل على تأسيس ما يمكن تسميته ” فضاء الأنثى – الحياة ” حيث إنه لما كان الواقع أرضا ، وحبيبة ، كلها جاهلة ، وقاحلة ، ولا يجني الإنسان من ورائها إلا غيابا ، وموتا ، لذا فقد اقتضى الأمر تأسيس فضاء شعري ، يقدم بديلا جديدا ، هو الأنثى بوصفها حياة ، بما في الحياة من دفء ونور ، وفرح وفاعلية ، تخلق غبطة في الروحِ وخلودا .
واللغة الشعرية بطبيعتها لا تعبر عن مضامينها على نحو مباشر ، وإنما هي تبحث أبدا عن رموز حسية ، تضم بها المتعدد ، وتختزل المجمل ، والأنثى التي في تجربة ” وكأني لا أحزن ” هي الحبيبة والأرض ، وقد اختزلت في رمز واحد ، استطاعت اللغة الشعرية أن تشحنه بأوفى دلالة للحياة ، ذلك الرمز هو ” الشمس ” :
ما أحنى صوت الأنثى !
يشرق في روحكَ وسرابك .
ويسوق الأحلام صباحاً ،
تمتدُّ على قلبكَ ممتلئاً بحنينكَ وعذابك .
كم كانت غربة روحكَ قاسية !
لا تعرف أيامكَ وجه النور الماثل فيكَ ،
ونافذة الروح تجوب الأفق ،
وتبحث عنكَ ،
ولا ضوء سواك !
من غير الحب تموت الأفلاك
الآن ، وقلبك ناصية النّور ،
حجيج الضوء يفيض بأهدابك
افتح روحكَ للعالم فالشمس ستدخل من بابك .
( 6 )
إذا كان الأمر كذلك يمكننا قياس أثر هذه الأنثى – الحياة على المكان :
رويدكِ ..
قلَّما ابتسم المكان !
خطاكِ ترسم ضحكة كبرى على لهف التراب.
كما أن هذه الأنثى – الحياة في فضاء شعرية ” وكأني لا أحزن ” يتجاوز أثرها إلى الزمان الذي لم يعد في وجودها ظلاما ” أشْري النّهارات من عينيكِ ” كما أنه في حضورها ” تلاشى الوجع الممتد شباكاً ” و ” توارت عن أفق الأحلام رتابة ” ولن يكون غريبا بعد هذا قول الشاعر : ” آمنت بأن الرحمة أنثى ” وقوله : ” أشعلتِ قنديل الحياة / أضأتِ من عينيك حولي ” وقوله : ” يا ماء مائي / ويا عشب الحياة على روحي / ومعنى الزّهر والعبقِ ” ولن يكون غريبا كذلك حين يماهي موسى بين هذه الأنثى والشمس : ” إنّي رأيتكِ ملء الروح مشرقة / أنثى السماء / وروح الأرض في الأفقِ ” .
إن التمرد الحقيقي لا يقف عند مجرد الوعي بمشكلات الواقع ، أو الشكوى منها ، وإنما يتبنى قضية ما ، ثم هو بعد ذلك يحدد إحداثياته عبر نقطة خارج نطاق المركز ، ليختار وسائله الخاصة ، وليطرح بدائله المضادة ، ذات القدرة على الهدم والبناء في آن ، وأية واقع يسلب أكثر مما يهب ، ويضطر أكثر مما يخيِّر ، ولا يمنح فرصة التنبؤ بالمصير ، غالبا هو يصنع مقهوريه ، ويؤسس لتداعيه ، وإن كان – في الحقيقة – ينشئ نبضا في داخله يرهص بانبعاث حياة جديدة ، تبزغ من بين الركام ، وتبشر بهامش سيصبح هو المركز المضيء .
والشاعر المتمرد الرائي في آن ، مفارق ، وخلاق ، بطبيعته ، ذلك أنه لا يقنع بمعايير السواد الأعظم ، ولا يتطامن مع الاستلاب ، والاضطرار ، وإنما هو معني دائما بالانفصال ، والذهاب حيث الذات تلامس غايتها ، وتحقق وجودها . وموسى عبر ” كأني لا أحزن ” يؤسس لفضاء يملك سبل الخلاص ، ويطرح بدائله عبر لغة شعرية ، تبتكر رموزها ، وتستثمر – إلى أقصى حد – كنوزها .
______________________