د. رجب بن علي العويسي- كاتب ومؤلف وباحث في التنمية والأمن الاجتماعي والتطوير المؤسسي والفكر الشرطي والتعليم
في ظل ما يعيشه عالمنا المعاصر من صيحات الاغتراب الفكري والوجداني والعاطفي، وأزمة عدم الثقة التي باتت تسود سياسات دوله في أغلب الأحوال، عبر لغة جديدة قائمة على التهديد ومحاولة فرض الآراء حول العديد من الملفات والأجندة العالقة بين دوله، والقرارات المتسرعة والارتجالية التي باتت تضر بمصالح شعوبه ، عزز ذلك الفكر السلبي، وأسلوب التناقض في الخطاب الاعلامي القائم عل تأجيج المذهبية والطائفية في الوطن الواحد، وتهييج سياسة الاقصاء وإثارتها، وعدم قدرته على التأثير في عمق وجدان الأجيال وكسبه لثقتهم،، في ظل افتقاره في بعض منطقتنا العربية للمهنية والاحترافية والمصداقية، واهتمامها بالبحث عن الثغرات وترويج المذهبيات والاحقاد بين أبناء الأمة، وغلبة لغة المصالح على كل القيم والأخلاقيات والعهود والمواثيق الدولية، التي يُفترض أن يكون لها حضورها في رأب الصدع وإزالة أسباب الخلاف، فكان أن فرض هذا الواقع شكلا جديدا انعكس على قناعات الأجيال، نحو أوطانها، في صورة أقرب إلى التشاؤم والتذمر والاحباط ، وضعف ثقتها في كل ما أنجزه العالم من تطور أو وصل إليه من تقدم ، طالما أنه لم يوجّه لصالح بناء الأوطان، وتعايش الإنسان، وتحقيق الأمن والسلام؛ فإن ما يحمله الأجيال من أفكار ومفاهيم وقناعات مغلوطة ، سيشكل على مر الوقت تراكمات سلبية تنعكس على تعاملها مع أوطانها، وتمردّها على مبادئها وأخلاقياتها، أو في تقديرها للمنجز الوطني، وترسيخ أفكار سلبية حول جدية ما يقوم به الآباء اليوم من ممارسات أساءت للتنمية والاوطان، ورسخّت فيها سلوك التهور والاندفاع، والاتهام والاشاعة، والسطحية والنظرة الضيقة للأمور، والتمرد على الأنظمة والقوانين، والتفكير في الذات والأنا، بعيدا عن سلوك الإيثار الذي يقرأ الصالح العام، والاهتمام بالغايات الوقتية القصيرة، وتعظيم وجودها كاحتياجات ينبغي تلبيتها بدون مراعاة لظروف المجتمعات أو كلفة الموارد وكفاءة تشغيلها، وأدخلت صور الممارسات السلبية التي يقوم بها البعض باسم الأوطان، إلى دائرة التعميم واصدار الأحكام وزيادة هوة الخلاف بين السياسات والممارسات.
من هنا برز دور التعليم كخيار استراتيجي في التعامل مع هذه الأزمات وإدارة محاور عملها لصالح الأوطان، عبر تعميق المفاهيم الايجابية للوطن، القائمة على الوحدة والحب والتآلف والتعاون والتعايش والأمن والأمان والاستقرار والتطوير والتقدم والاحتواء والالتزام بالمبادئ والقيم والأخلاقيات، وبالتالي إزالة الشكوك والأوهام والصورة السلبية القاتمة التي تتلقاها الأجيال بشأن أوطانها، حتى أفقدها لذه الاستمتاع بكلمة الوطن، وباتت مغيبة في معايير الكسب السريع وموازين الربح والخسارة، وأن يسهم بدوره في توظيف هذا الواقع المتشائم إلى تعزيز فرص تجليات في واقع حياة الأجيال، ومسارات إيجابية تبني فيهم قيمة الأوطان، وحقوقها ومسؤولياتهم نحوها، وتجنيبهم مسألة خلط الأوراق مع بعضها، فقضايا الفساد أو المحسوبية أو الظلم والقمع الذي يمارسه البعض ، لا تمثل الوطن ولا يعكس حقيقته، ولا تحسب عليه وهو منها براء، بما يعني عدم الزج بالأوطان في مهاترات وقضايا جدلية وتضييع بريقها ولمعانها في ممارسات خاطئة، فإنّ محورية التعليم فيها، يأتي عبر امتلاكه أدوات البحث عن الوطن في وجدان الأجيال ، واستنهاضه في مشاعرهم وتفكيرهم وأحلامهم وآمالهم وكتاباتهم وممارساتهم؛ بما يضع حدا لعملية اغتراب الأوطان التي باتت أجيال اليوم تعانيها، فلم تستطع أن تحتويها، وما تعبر عنه أحداث المشردين و اللاجئين من اهتزاز في ثقة الأجيال بأوطانها، وأن يعمل التعليم على إعادة صياغة لحن الوطن في ترانيم الطفولة، بلغة محسوسة راقية جميلة نابضة بالحياة حاضنة لهم، محافظة عليهم، ساعية نحو تقدمهم، لذلك فالحاجة إليه ضرورية للبقاء والحياة، غير قابلة للمساومة، أو استعراضها في المزادات العلنية أو المزايدات الكلامية، بحيث تضمن بيئة التعليم والتعلم ترجمة فعلية لحب الوطن تتجاوز حالات الاعجاب السلبي الوقتي المصحوبة بالاندفاع أو تحيّن المصلحة أو الشطط في الدفاع عنه، ليثبت التعليم خلالها دوره في إعادة رسم خريطة الوطن في وجدان الأجيال، مستفيدا من معطياته وفرصه وأدواته وأساليبه وعناصره لبناء مشروع الإنسان الحضاري.