فضاءات

بدر العبري يكتب: التّفسير الإنسانيّ لـ : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

بدر العبري يكتب: التّفسير الإنسانيّ لـ : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
بدر العبري يكتب: التّفسير الإنسانيّ لـ : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ بدر العبري يكتب: التّفسير الإنسانيّ لـ : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

بدر العبري- كاتب عماني

هذا الجزء من الآية مرتبط بالجزء السّابق في الحلقة الماضية {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وغير بدل من الّذين أنعمت عليهم، وغير أيضا من أسماء الاستثناء الّتي تلزم الإضافة، والإضافة تلزم التّخصيص، فيكون المغضوب عليهم والضّالون خارجين من سياق الدّعاء بالإنعام؛ لأنّ المؤمن يدعو بالحسنيين في الإنعام في الدّنيا والآخرة، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} البقرة/ 201.

وعرّف أبو حيان الغرناطيّ ت 745هـ في البحر المحيط الغضب بتغير الطّبع لمكروه، وقد يطلق على الإعراض لأنّه من ثمرته، وعرّفه القرطبيّ ت 671هـ بالشّدة، ورجل غضوب أي: شديد الخلق.

واستطرد أبو حيان في تحديد معنى الضّلال في تفسيره فقال: والضّلال: الهلاك، والخفاء ضلّ اللّبن في الماء، وقيل أصله الغيبوبة في كتاب لا يضل ربي، وضللت الشّيء جهلت المكان الّذي وضعته فيه، وأضللت الشّيء ضيعته، وأضلّ أعمالهم، وضلّ غفل ونسي، وأنا من الضّالين، { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة/ 282]، والضّلال سلوك سبيل غير القصد، ضلّ عن الطّريق سلك غير جادتها، والضّلال الحيرة، والتّردد، ومنه قيل لحجر أملس يردده الماء في الوادي ضلضلة، وقد فسّر الضّلال في القرآن بعدم العلم بتفصيل الأمور.

ويرى البغويّ ت 1122هـ أنّ أصل الضّلال الهلاك والغيبوبة، يقال: ضلّ الماء في اللّبن إذا هلك وغاب.

والحاصل أنّ الغضب والضّلال في أصله يفيد الجانب المطلق والعامّ، إلا أنّه بسبب بعض الرّوايات فسر المغضوب عليهم باليهود، والضّالين بالنّصارى، ومن هذه الرّوايات رواية عديّ بن حاتـم ت 66-69هـ قال: قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -: الـمَغْضُوبُ عَلَـيْهِمْ: اليهود، وفي رواية من الطّريق نفسه مرفوعا {ولا الضَّالِّـينَ}  قال: النَّصارى.

وعليه لو تأملنا جملة التّفاسير من البداية حتى الآن نراها يكاد تطبق على ذلك، حتى قال ابن أبي حاتم ت 327هـ: لا أعلم خلافاً بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم باليهود، والضّالين بالنّصارى، بينما ذكر السّمرقنديّ ت 373ه على الأشهر في تفسيره الإجماع حيث قال: وقد أجمع المفسرون أنّ المغضوب عليهم أراد به اليهود، والضّالين أراد به النّصارى.

وزاد من حجة هؤلاء أمران: الأول تصحيح هذه الرّوايات سندا، والثّاني الاستئناس ببعض آيات القرآن الكريم، حيث قرن الغضب باليهود كما في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} البقرة/61، وقرن الضّلال بالنّصارى كما في قوله سبحانه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} المائدة/ 77.

إلا أنّ حكاية الإجماع ليست صحيحة؛ لأنّ هناك أقوالا أخرى وإن لم تشتهر بسبب الرّواية، وهذا يدلّ ما مدى التّأثير الرّوائيّ في غياب العديد من الآراء الأخرى، ومن هذه الأقوال مثلا: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}: المشركون، و{الضَّالِّينَ}: المنافقون، وقيل: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}: مَن أسقط فرض هذه السّورة في الصّلاة، و{الضَّالِّينَ}: عن بركة قراءتها، وردّ الماورديّ ت 974هـ هذا التّأويل أنّه ليس بشيء، وأنّه وجه مردود، والحقيقة هو نتيجة الصّراع بين مدرسة أهل الرّأي وأهل الحديث في قضيّة قراءة الفاتحة في الصّلاة وتكرارها، ليس هنا محلّ بحثه.

ومن هذه التّأويلات المذهبيّة أيضا قولهم: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}:  باتباع البدع، و{الضَّالِّينَ}:  عن سنن الهدى، ومن هذه قول سهل بن عبد الله ت 283هـ: غير المغضوب {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} بالبدعة، {وَلَا الضَّالِّينَ} عن السّنة. وهذا يشمّ منه رائحة أهل الحديث الّذين اعتبروا أنفسهم أهل السّنة والحامين عنها، وغيرهم أهل البدع، حتى بدعوا أنفسهم، وللأسف انتقل هذا التّقسيم حتى إلى غيرهم، فصار كلّ مذهب يفسّق ويبدع غيره!!

ومن الأقوال الجيدة والمتناسقة مع آيات القرآن الكريم: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}:  العصاة،  و{الضَّالِّينَ}: الجاهلون بالله، وذلك لارتباطها بالجنس البشريّ ككل؛ لأنّ قانون الله واحد في الغضب والضّلالة، {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} القمر/ 43.

ولهذا نقل أحمد الخليليّ [معاصر] في جواهر التّفسير عن الرّازيّ ت 604-606هـ تضعيف تفسير الآية باليهود والنّصارى؛ لأنّ منكري الصّانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنّصارى، فكان الاحتراز عن دينهم أوْلى، واختار الفخر أن يُحمل المغضوب عليهم على كلّ من أخطأ في الأعمال الظّاهرة وهم الفساق، ويحمل الضّالون على كلّ من أخطأ في الاعتقاد؛ لأنّ اللّفظ عام، والتّقييد خلاف الأصل.

بينما هود بن محكم الهواريّ ت ق 3هـ يعلل هذا التّقييد بقوله: المشركون كلّهم مغضوب عليهم، وكلّهم ضالون، ولكن اليهود والنّصارى يقرأون الكتابين: التّوراة والإِنجيل وينتحلونهما، ويزعمون أنّهم يدينون بهما. وقد حرَّفوهما، وهم على غير هدى.

وما قاله الرّازيّ هو الّذي ينسجم مع آيات القرآن، والمنطق السّليم، فلا يجوز تقييد فضاء القرآن الواسع لبعض الآراء، والرّوايات المحتملة الصّواب والخطأ.

وما قاله الرّازيّ يوافقه ما جاء في المنار بقولهم: فالمختار فيه أنّ المغضوب عليهم هم الّذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به، والّذين بلغهم شرع الله ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه، انصرافا عن الدّليل، ووقوفا عند التّقليد، إلى أن قال: ولا شكّ أنّ المغضوب عليهم ضالّون أيضا؛ لأنّهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم فقد استدبروا الغاية، واستقبلوا غير قبلتها.

وهذا ذاته الّذي يراه سيد قطب ت 1966م في ظلال القرآن: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فهو طريق الّذين قسّم لهم نعمته، لا طريق الّذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثمّ حيدتهم عنه، أو الّذين ضلّوا عن الحق فلم يهتدوا أصلاً إليه، إنّه صراط السّعداء المهتدين الواصلين.

خلاصة ما سبق أنّ الآية لا علاقة لها والتّقييد، وهي مرتبطة بالجنس البشريّ كمجموع، وبالإنسان كذات، وعليه الهداية والغضب والضّلالة ليست لصيقة فرد دون آخر، أو أمّة دون أخرى، وإنما لصيقة قوانين يبحث عنها الإنسان.

ثانيا: الإنسان يرجو الهداية، ويطلب من الله ذلك، ولكن لا يزكي نفسه ولا مذهبه وطائفته، {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} النّجم 32، كما أنّه يحذر من الوقوع في الغضب والضّلالة، ويبحث عن الهداية ويجاهد فيها، وليس معنى الآية الحكم على النّاس وتصنيفهم.

ثالثا: الله أعلم بعباده ولما ضرب مثلا ببعض اليهود والنّصارى لأنّه عليم بهم، وما ذكره اسما فلا يعني دخول جميع الأفراد منهم، ولهذا لا معنى للتّخصيص، ولا يصح لأحد أن يشارك الله تعالى في الحكم على الخلق، وله مساحة البلاغ والبيان والحوار بالّتي هي أحسن.

والآية كما أسلفنا في مقام الدّعاء وليس في مقام الحكم على البشر، من هنا لا يصح تضييقها طائفيا أو مذهبيا، ليدخل في التّزكية الّتي ذمها الله تعالى في كتابه، وبهذا نصل إلى ختام التّفسير الإنسانيّ لسورة الفاتحة، لنبدأ في الحلقة القادمة التّفسير الإنسانيّ لسورة البقرة، والحمد لله تعالى.

Your Page Title