فضاءات

الفلسفة الأمريكية والعولمة سيطرة البراغماتية على العالم للدكتور هاني يحيى نصري

الفلسفة الأمريكية والعولمة سيطرة البراغماتية على العالم للدكتور هاني يحيى نصري
الفلسفة الأمريكية والعولمة سيطرة البراغماتية على العالم للدكتور هاني يحيى نصري الفلسفة الأمريكية والعولمة سيطرة البراغماتية على العالم للدكتور هاني يحيى نصري

لـ: معاوية الرواحي

عزيزي القارئ:

يثير العنوان بعض الشكوك في البداية، هل نحن أمام كتاب آخر من الكتب التي تقوم [بهجاء] الولايات المتحدة الأمريكية معددة ومنددة الويلات التي قامت بها هذه الولايات المتحدة متحدةً أو متفرقة؟ أم سنكون أمام كتاب موضوعي يمكنه أن يوصل القارئ إلى خلاصة معرفية مفيدة تضيف إلى تصوراته فكرة جديدة؟ هل كتاب يختلف عن الهراء الذي يُقال في كل مكان عن دولة عظيمة تستحق الاحترام والكثير من النقد والغضب في آن واحد.

بين الشاعر والمفكر خصام قديم للغاية، ويمثل العلم جسرا للشاعر لكي يفهم المفكر، أما المفكر فمن المستحيل أن يفهم الشاعر مهما حاول لأن الشعر لا يمكن تعلمه. يظهر لك من السطور الأولى للكتاب أنك أمام شاعر يعرف اللغة جيدا، والشاعر ليس بالضرورة ذلك الإنسان الذي يقول أو يكتب الشعر، فالشعر هبة لغوية ربانية من طراز نادر وخاص ليست كثيرة الانتشار وأجزم أن هذه الهبة هي إحدى الملكات التي يملكها الكاتب. قبل أن ندخل في عالم الكتاب دعني أخبرك قليلا أيها القارئ العزيز عن هذا الدكتور وعن تجربته العلمية.

ولد في عام 1946 وحصل على الدكتوراة في الفلسفة الاجتماعية من جامعة فوردهام في نيويورك، عمل أستاذا ورئيسا لقسم علم الاجتماع وعضوا في نادي الرئاسة في جامعة الملك عبدالعزيز، أصبح أستاذا مشاركا في جامعة فوردهام عام 1990م وأستاذا في الأكاديمية الأمريكية للتكنولوجية منذ عام 1998م إلى عام 2003م، تجاوزت مؤلفاته العشرين كتابا.

يبدأ الكتاب بجملة [بسم الله الرحمن الرحيم] ومن ثم اقتباس من القرآن الكريم: فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا].

قد توحي السيرة الذاتية للكاتب بأنه من ذلك النوع من الأكاديميين الذين يبررون للغرب كل ما فعله، وينتقدون الشرق والإسلام والعروبة على كل ما حدث، فهل هذا الكتب هو أحد تلك الكتب التي تنتمي بشكل ظالم إلى أحدى الضفتين؟ لو كنا نحب أن نعتمد على الصور النمطية في فهم المعرفة !!

في لغة شعرية تصف الفكرة بإنصاف وأناقة بدأ الكتاب في فصوله الأولى بتوضيحات أستاذ جامعي للقارئ العام عن أفاعيل المفكرين في هذا العالم. المفكر صانع سيوف من نوع خاص، وسيوفه هذه أكثر خطرا من السيوف التي يصنعها الحداد لبضعة عشرات أو مئات، سيوف الأفكار تتناسخ وتحملها آلاف أو ملايين العقول، إنها سيوف قابلة للنقل والتناسخ بسهولة بالغة عبر كتاب أو منشور.

تحدثت اليد الأكاديمية الخبيرة في بداية الكتاب لطالب العِلم عن تحولات المعرفة بعد تقييد سلطة الكنيسة في أوروبا وعن تبعات ذلك، وعن ظهور النزعات اللاأخلاقية في العلم. وصف الكاتب ميكافيللي بالضربة الأخلاقية في جسد العِلم وأجده محقا في ذلك، ثم انتقل شارحا للطالب [القارئ في سياقنا] عن ما كان يحدث من تفاعلات في تلك الفترة المهمة من تاريخ البشرية في العصر الحديث.

تناول الكاتب سؤال الأداتية بشيء من الاختصار والوضوح العلميين، فما هي الأداتية؟ وهل كل فكر ينسج من الكلمات ليتحول إلى الأفكار دون أن تكون له فائدة في جلب الأتباع أو المال أو القوة أو الحفاظ عليها فعلا علم بلا فائدة؟ وهل أمريكا استطاعت أن تجعل كل شيء أداةً في يدها؟ في اختصار واضح تناول الكاتب في مقالين صغيرين هذه الفكرة سواء من جانبها التاريخي أو من جانبها العلمي، وكنت أتمنى أن يتوسع في الشرح أكثر إلا أن هدفه من الكتاب لا يبدو التعليم بقدر ما هو تسجيل مواقفه التي تظهر هُنا وهناك وتتبلور بصراحة في نهاية الكتاب كما فعل في كتابه الآخر [علم النفس: دراسة للحواس الداخلية عبر السلوك اليومي للإنسان].

تجاوز الكاتب طابعا مقيتا للكتاب العرب المقدسين للغرب في كل شيء، المبررين له عدميته وأفكاره المريضة، وكذلك اضطرار الكاتب في الشؤون الفكرية ألا يكون  مؤمنا وكأن الإيمان سبّة وعار للمفكر. عندما تقرأ للدكتور هاني يحيى نصري يختفي لديك هذا الشعور، تجد الأصالة الإسلامية وكذلك شعور بالفخر، ولو تتبع القارئ اقتباساته من القرآن الكريم لوجد ما يؤكد هذا، هي صفة خاصّة بالكاتب، وفي الوقت نفسه لا نجده يخوض خوضا في عوالم تفسير القرآن كأن القرآن نزل عليه قبل النبي، إنّه يأخذ بالحسنى، ويعطي بالحسنى.

يعترف لك الكاتب بوضوح أنه مسلم ويؤمن بالإسلام وبالقرآن والتسامح والإنسانية في وقت واحد وأن كل هذا لا يتناقض مع بعضه البعض. وبينما تقول لنا سيرته الذاتية بوضوح تام أن تعلم في أرقى مدارس الغرب ودرّس فيها، يعترف لنا في السطور لا بينها أنه يحمل الكثير من الود للمسيحيين ويقتبس لنا الآية القرآنية التي تؤكد ذلك، يقول لك الدكتور بوضوح أفكارَه، فهو يحمل اليهود مآسي العالم الآن، ولكن دون لغة النائحة المستأجرة التي اعتدنا عليها من أشباه الأكاديميين العرب، ويوضح لنا أن الإيمان جزء لا يتجزأ من الإنسان وأن من يحاول أن يفصل الإيمان ليجعل منه فكرة سينتهي به المطاف إلى التناقض الفلسفي وبالتالي إلى الأداتيّة، لم يقل الكاتب ذلك وإنما هذا ما أستنتجه من كلامه ومن كتبه الأخرى. بعد قراءتك لهذا الكتاب ستجد وسيلة أخرى لعرض أي كاتب أو مفكر لاختبار سريع، لتضعه في القائمة نفسها أو في قائمة الإنسان، الذي لا يخجل أن يكون مؤمنا، والذي لا يخجل أن يقول: أن القوة ليست كل شيء، الفضيلة خيار منطقي أيضا.

يشرح لك الكاتب في أعماله غالبا عن التنافس الرخيص بين المفكرين لصناعة [نموذج برمجي] يمكن أن يكون أداة جديدة من أدوات السيطرة على الشعوب، يشرح لك ويقول لك بحزن غير خاف عليك كقارئ أن المفكرين أصبحوا صانعي سيوف من الطراز الأول قدموها بشكل مجاني إلى السلطات في كل مكان، وحتى الذين يمقتون الفلاسفة لتناقضاتهم وأمراضهم الروحية، حتى هؤلاء الذين يجدون متنفس الحياة والقراءة في الفن والأدب، حتى هؤلاء الذين يهربون من أكاذيب الفلاسفة ومحاولاتهم التي لا تنتهي للتحول إلى عقول كلية تفسر العالم من منظور عينين اثنين، حتى هؤلاء الذين سئموا من لعبة المصطلحات التي تسمي الشيء نفسه عبر العصور، حتى هؤلاء يعرفون جيد ميكافيللي، ويعرفون إلى أي مدى يغوص المفكرون في وحل العار.

ختاما لا يقول لك هذا الكتاب لماذا أمريكا أصبحت أمريكا، ولكنه يهبك مقدمة فكرية عن الطريقة التي هيّأ به المفكرون الأوائل صناعة هذا الكيان المثير للإعجاب والقلق، لن يردد لك هراء معتادا عن الدستور الأمريكي والحرب الأهلية الأمريكية، وإنما ينقلك إلى الكتاب المسرحيين وراء الكواليس الظاهرة الذين جعلوا من الفكر الأمريكي أمريكيا. ومع أن الكتاب لم يتوسع في ذلك إلا أنه كاف للغاية للقارئ ليتأكد أن الفيلسوف يمكنه أن يصبح صانع سيوف، وأن هذه السيوف يمكنها أن تتحول إلى ناقلات طائرات تقصف مدينتك أو تحتل أرضك، الجريمة ليست رصاصة دائما ولكنها أحيانا فكرة.

Your Page Title