أثير – تاريخ عمان
إعداد: نصر البوسعيدي
أثير – تاريخ عمان
إعداد: نصر البوسعيدي
يخبرنا التاريخ أن صلاح الدول وقوتها يرجع إلى عدالة من يحكمها، وأمانة بطانته، وصراحة رأي الناصحين المحبين فيها مَن لا يرجون أي مقابل من كل ذلك وإنما هدفهم السير بالبلاد نحو الأفضل.
وفي تاريخ عمان تحفظ لنا أمهات المصادر من المخطوطات العديد من الوثائق والمراسلات المهمة جدا التي تشير إلى قوة المجتمع وتناغمه مع من يحكمهم حينما ينبض الجميع بحب عمان ومصلحتها وخيرها، وما رسالة ذلك المواطن البسيط بنزوى الشيخ الزاهد سعيد بن أحمد بن محمد الخراسيني للإمام ناصر بن مرشد اليعربي الذي حكم عمان ووحدها بداية من عام 1624م، إلا أكبر مثال على تلك النصيحة وحرية الرأي التي كانت تصل لولي الأمر مباشرة دون مصادرة أو ترهيب من شخص لا يريد لوطنه إلا خيرا، وهي رسالة وجب على كل مسؤول قراءتها واستخلاص الفوائد منها في كل زمان أو مكان.
وقد كتب هذا الزاهد رسالته البليغة جدا والمليئة بالحكمة للإمام قائلا فيها: “الحمد لله الذي أيّد هذه الأمة برحمته ونصره ومن عليها بمن ارتضاه من أبناء دهره وعصره، وملكه الشطر من ملكه وقهر وأطاع له من خلقه بما يقوى به على نهيه وأمره، وجعل له خليفته بعد أخرى يذب بها عن كل شيطان امتلأ عتوا وكبرا، وملأ نحره ظلما ووزرا، وتجبر في الأرض علوا وفخرا، وملكهم بالجبر إذلالا وقهرا، رحمة منه ونعمة بعد أخرى، فيالها من نعمة عظمت علوا وقدرا، ومنَة منه عليها ثقلت تأدية وشكرا، ابتلاء من الله ونظرا وخبرا، وصلى الله على خير خلقه محمد وأئمة الهدى الموفية بالعهد نهيا وأمرا المؤمنة بقضائه حلوا ومرا. أما بعد : إمام المسلمين أنا وإياك ركاب سفينة تجري بنا في بحر لجي عميق تلعب بها الرياح فتضطرب بها مرة وتسكن أخر، فاعتصم بالله وتوكل عليه واسأله السلامة لك ومن معك فيها بدعاء وتضرع وخوف ووجل ونية صادقة خالصة من دنس المعاتب، ودرن الذنوب، فإنا وإياك ناجون فيها أو غرقى، فإنا في أمر عظيم وخطر عظيم، ولكنها قلوب غافلة وأفئدة موعاة غير واعية، وأنا واياك عما قليل أموات لأننا أبناء أموات، وما أخذنا هذا الأمر والسلطان إلا بوراثة ممن كان قبلنا فأرجى ما يرجى به من دوام الملك وبقاء النعمة وتعاقب الرحمة وزوال النقمة في الرأفة والعدل والرحمة وصلاح النية والعفو ما وسع ذلك.
ولن تملك سادات الرجال وأهل الشرف إلا بلين الجانب ولطف المقال وحسن الصحبة وجميل الفعال لقوله تعالى (خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين)، فالله الله أيها الإمام في إخوانك الذين بذلوا في نصحك مجهودهم وشرعوا لك فيه موردهم في منطق لا يعاب، ونصيحة صدرت لك من أتقياء أنقياء ألباب، مؤمنين غير متهومين في فعل ولا مقال، فهم لك عيون ناظرة وآذان وأفئدة زكية طاهرة يعرفهم العارف والجاهل ذو ورع في دينهم إذا رأيتهم خلتهم وحسبتهم بهائم راتعة، وإذا اختبرتهم وجدتهم ملوكا أشداء في دينهم لا يخافون في الله لومة لائم خلصت وطهرت قلوبهم من الدنيا الدنية لا يطلبون بنصحهم إياك من أجر، إن أجرهم إلا على رب العالمين، فتدبر أيها الإمام ما كتبته إليك إن الناصح إذا جاء ناصحا لله تعالى راغبا فيما عنده زاهدا فيما لديك لا يطلب في نصحه لك أجرا ولا يريد به فخرا وذكرا ورفعة، فاعلم يقينا انه من نصحائك في الله وأحبابك الذين يؤثرون على أنفسهم ويحبون بقاء عز الدولة بإنفاذ كلمة الحق لله وفي رجاء ثواب الله وفي استبقاء ما عنده فهو خير وأبقى والملك لله يهبه من يشاء من عباده والأرض له يهبها لمن يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. فإذا وردت لك هدية رحمك الله من نصائح أحد إخوانك فاعرضها على عقلك فإنه حكم عدل، فإن قبل ذلك من الناصح مع موافقة آثار المسلمين فاقبله فإنه من الله على لسان أخيك وممن جاءك به. واقبل الحكمة ممن جاءك بها من الناس فإن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها من حبيب أو بغيض ومن عالم أو ضعيف فإنك أصبحت في أمر عظيم على خطر عظيم، فالله الله إمام المسلمين.
ولا تهمل العيون واجعل على العيون عيونا، فإن لم تفعل فاعلم أنك مغبون، ولا يكون العيون إلا الثقات الأمناء من الناس المأمونين على ما ائتمنوا عليه فابحث من كل بلد ملكت أمرها أمناءها وفضلاءها واجعلها عيونا راعية في رعيتك حافظة ولايتك، فإن اتهمت العيون وارتاب قلبك في قولها فليكن همك طلب البحث لتعرف حق ذلك من باطله وجده من هزله.
ولا تهمل الأمر إهمالا ولا تغفل من أهل البلد وجوهها وأهل الشرف منها، وأظهر إليهم الجميل من مقالك كأنك مقصر في حالهم وإن كنت محسنا، تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قيل إنه فقد رجلا فسأل عنه ثم قال: (اذهبوا بنا إليه لعله واجد علينا)، ولا عتاب عليه لأحد من الناس صلى الله عليه وسلم لأنه كان برا رحيما، ولكن ذلك من تمام أخلاقه في قومه ورعيته، فلين الجانب إلى الناس يجلب لك المودة وهو خير من النفقة في بعض الأحايين رحمك الله. وأما تقربك لأشراف الناس يزيدك منهم مودة ونصرة. ونصيحتك ولطفك للمسكين ورحمتك له ينفعك بدعائه لك لما يجد من عفوك وإحسانك إليه، فلا بد من دعاء يسمع لك ويستجاب. والكلمة الشديدة تنفر منها قلوب ذوي الألباب فإن الناس أجناس متباينة فأنزل كلا منهم منزلته فإن الناس منازل يتفاضلون بها فمنهم إخوانك وهم نظراؤك وأمثالك فأحب لهم ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك فإنهم يحبون منك مثل ما تحبه منهم فإنك تحتاج إليهم أكثر مما يحتاجون إليك فألن لهم الجانب وكن لهم روحا وريحانا يكونوا لك إخوانا وأعوانا وملجأ وردءا وأنصارا، فإنك سلطان بجيرانك وإخوانك لا بالمؤلفة من حسادك وعدوانك فإن النصيحة من العدو محال والمحال زوال ونصائح إخوانك وأهل الشرف من جيرانك لا تستخرج إلا بصحة القريحة منك، والمودة منك لهم تكون نصائح الرجال ولا تصلح المودة الغريزية إلا بإصلاح النية فإذا صلحت النيات من باطن القلوب في رضى الله علام الغيوب فهنالك أمن الراعي واستراحت الرعايا ولو جربت ذلك لوجدت مقالي صوابا إن شاء الله. وما أنت كبير إلا بإخوانك وأهل الشرف من بلدانك، وأقبل من إخوانك كلا منهم على قدر ضعفه وقوته وعظم همته وتراخيها، فإن أحوال الناس مختلفة لا متفقة ومؤتلفة، واقبل معذرتهم وأقل عثرتهم واغفر زلتهم فإنك لا تجد الناجي من العيوب المبرأ من الذنوب، فإن طلبت صحبة من لا عيب فيه، فاتك الدهر من غير صاحب، وأنت أحوج الناس إلى الأصحاب ولكن لكل هؤلاء مرتبة ومنزلة فأنزل كل واحد منزلته إلا السفلة السعير فأعطه الشدة صراحا. وإن استغنيت عن أحد فلا تبعده كل الإبعاد وتفقد حاله واسأل عنه فإنك لا بد أن تحتاج له يوما، وما يكون لك حبيبا غائبا حاضرا أخا شفيقا لا يرضى فيك المعائب وإن كان عنك غائبا وحاشاك من ذلك. وإن استغنيت عن أحد أو اعتذر إليك أخوك إن طلبته في أمر ترى أنه من أهله فاعتذر إليك فاقبل معذرته ولا تبعده، فإنه أعلم بنفسه منك والله أعلم به منك ومن نفسه، فوكل أمره إلى الله ولا تترك له من يؤذيه بمقالة ويكثر عليه من كلامه ووباله، فإن الكلام الشديد إذا صدر من ذويك ومن تقوى بسلطانك فذلك منك لا منه والكلمة الشديدة تنفر منها القلوب وتتبدد منها الأجساد، فقد وصى الله نبيه الكريم بلين الجانب وخفض الجناح للمؤمنين فقال (ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، وقال ( وأمرهم شورى بينهم)، وأمره بالمشورة وحثه عليها في غير موضع وهو أكثر الناس عقلا وأرجحهم رأيا وأعلاهم درجة وأدبا لأن ذلك من لين الجانب وحسن التواضع للناس، فلا ذل ولا صغر من تواضع لله، ولا ساد وارتفع من تكبر على الخلق، وحاشاك وحاشا كل مؤمن تقي من ذلك. وأحق الناس وأولاهم بالصبر واحتمال الأذى هم الملوك لأنهم على أمورهم قادرون ولرقاب الرعية قاهرون، قد ملكهم الله العباد ولا ملجأ لهم من الله إلا إليه، ولا شك أنك عالم بالذي كتبت به إليك لأنك ملك من أبناء الملوك تسوسون الرعايا وتمارسون الأمور لأن الملوك ممتحنون فلا بد لهم ولا مخرج من ذلك لأن الملوك أحوج الناس إلى سياسة الملك في رعاياهم وأنهم أكبر الناس عقولا ورأيا وسيرة وسياسة وأدبا من سائر الرعايا وهم أمناء الله في أرضه على خلقه، ولكن المكاتبات بين المسلمين واجبة والنصائح لازمة تذكرة وتنبيها للملوك لما هي فيه من كثرة الأشغال ومعاناة أمور الدعية ومقاساة ما تجده من كثرة المعاندات والمخاصمات وخاصة في أهل هذا الزمان والله المستعان وهو حسبنا وكفى به حسيبا. واعلم أيها الإمام أن الله سبحانه أحلك محلا عاليا شامخا وأنزلك منزلا شريفا باذخا وملكك طائفة من ملكه ولم يرضَ أن يكون أمر أحد فوق أمرك فلا ترضَ أنت أن يكون أحد أولى منك بالشكر له وأن الله سبحانه قد ألزم الورى طاعتك فلا يكن أحد أطوع لله منك. وليس الشكر باللسان ولكن بالفعل والإحسان، قال تعالى ( اعملوا آل داود شكرا) واعلم أن هذا الذي أصبحت فيه من الملك لم تبق له ولم يبق لك ولو انه بقى لمن قبلك لم يصل إليك إنما صار إليك بموت من كان قبلك فاجتهد رحمك الله في طلب راحة رعيتك بتعب نفسك وإغناء مسكينك بمخمصة بطنك لكي تتبع الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. واصبر على مرارة الصبر واحتمل زلة رعيتك ووقر كبيرها وارحم صغيرها وتفقد أمورها واسأل الله تعالى يمن عليك بتوفيقه لمرضاته والصبر على ما ابتلاك من أمور عافى غيرك منها يوصلك به ملكا دائما ونعيما لا يزول في دار تبقى فيها الصحبة ويذهب عن أهلها فيها النصب واللغوب ويجعلنا وإياك رفقاء إخوانا على سرر متقابلين فيالها من نعمة ما أجلها وغبطة ما أعظمها جلت وعظمت عند من رزقها ونالها وصغرت وهانت على من وهبها ويالها كرامة من معطيها لمن أعطاها وما ذلك على الله بعزيز ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) فخذ إمامي وإمام المسلمين بما بان لك عدله واترك عنك ما التبس عليك أو ظهر لك خطأه وهزله، فربما اختلس الشيطان مني الصواب وألقى على لساني الزلل والارتياب وأنا أستغفر الله تعالى من كل قول وفعل وعمل قد خالفت فيه الحق ومن كل شي كتبته في كتابي هذا وغيره أو أوردت فيه شيئا مخالفا فيه المسلمين فأنا أستغفر الله من جميع ذلك ولا أردت بكتابي هذا وغيره العز لأحد أو عداوة وانتصارا مني وافتخارا أو علوا وتقربا من السلطان أو استكبارا وصلى الله على محمد وآله وسلم وصحبه وتابعيه ورضي الله عن أئمة الهدى من لدن أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين والسلام”.
*************************
المصدر: تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد السالمي، مكتبة الإمام نور الدين السالمي 2000م – السيب – سلطنة عمان.
المصدر: