الوادي الذي كشف الفساد في عهد الإمام غسان اليحمدي

Atheer - أثير
Atheer - أثير Atheer - أثير

أثير – تاريخ عمان
إعداد: نصر البوسعيدي

أثير – تاريخ عمان
إعداد: نصر البوسعيدي


التاريخ العماني زاخر بالمواقف والأحداث وفيه الكثير من الحكايات التي من الجيد أن يتم تداولها بين الناس، فحاضرنا ليس إلا تراكمات من التاريخ الذي عايشه أجدادنا ووصل إلينا لنعيش امتداد الماضي بتجليات الحاضر ومتطلباته وظروفه.

ما نتفق عليه جميعا بأن عمان عبر تاريخها الحافل أنجبت العظماء والعلماء والقادة النجباء، ومارست الحق الديمقراطي وقتها في اختيار الحاكم الفعلي للبلاد كردة فعل من المعارضة السياسية لنهج الدول الأموية والعباسية في نيل السلطة، ولا نود الخوض هنا في تفاصيل ذلك خشية الإطالة، ولنتجاوز الكثير من تلك التفاصيل لنصل إلى انتخاب أهل عمان للإمام غسان بن عبدالله اليحمدي ليحكم البلاد والعباد بعد وفاة الإمام الوارث بن كعب الخروصي سنة 192هـ.

وهو أشهر حاكم عماني حارب القراصنة الهنود وطهر الخليج وبحر العرب منهم، وكانت الأساطيل العمانية المسماة ( الشذاة ) تدك وتلاحق هؤلاء القراصنة الذين امتهنوا السلب والإجرام اتجاه سفن العرب التجارية.

وقد اتخذ الإمام غسان حارة العقر بنزوى مسكنا له فهي العاصمة القديمة لعمان وتخت الحكم وفي عهده سميت نزوى بيضة الإسلام لكثرة علمائها وفقهائها.

ولا شك أن عدالة الإمام غسان اليحمدي كانت مضربًا للأمثال، فقد كان يسير بعمان سيرة حسنة ولم تقطع فيه عهده الـ15 عاما من حكمه إلا يد سارق واحد فقط.

ومن مواقفه التي تذكرها كتب التاريخ، قيل بأن هناك ديارًا في نزوى كانت لبني الجلندى وفي مقدمتها عقود مبنية، وأنه في يوم من الأيام سارت امرأة بجانب هذه البيوت ليلا، فإذا برجل خرج لها من ناحية هذه العقود فأفزعها وهو يعترض طريقها، فشكت ذلك للإمام وهو حاكم عمان، فأمر أصحاب الديار بخيارين إمام بهدم العقود أو إنارة الطريق بالسرج لكي لا تتعرض أي امرأة في هذا الطريق لنفس الموقف، فكان خيار أصحاب هذه الديار إنارة الطريق لأنهم يعلمون تماما بأن ديارهم سيهدمها الإمام إن لم يمتثلوا لأمره، فلم يكن الآخرون يتجرأون بممارسة أخطائهم في عهد الإمام دون محاسبة ولو كان شيئا بسيطا كالذي حدث مع تلك المرأة، فما بالكم بعظيم الأمور.

لقد كان الإمام غسان ذكيا جدا ويختبر الرعية والوزراء والمستشارين بأشكال عديدة حرصا منه على معرفة أين يكمن الفساد في دولته.
ومن عادته التي لازمته طوال حياته زيارته لقبر الإمام الوارث بن كعب الخروصي الذي مات وهو الحاكم لينقذ المساجين الذين جرفهم وادي كلبوه الذي يجري محاذيًا لقلعة نزوى، هذا الحاكم الذي ضحى بكل شيء من أجل أن يتحمل مسؤوليته اتجاه حتى المساجين وهو قاهر جيوش العباسيين في عهد هارون الرشيد.
ولأن قبر الوارث كان بالقرب من مجرى الوادي الذي كان ماؤه العذب لا ينضب بنزوى ولا تشوه عذوبته الطحالب فقد لاحظ الإمام غسان وهو ذاهب كالعادة لزيارة الضريح، بأن ماء الوادي ليس كعادته عذبا، فقد انتشرت بين أرجائه الطحالب وبعض الأوساخ التي تعكر صفوه، وقد استشعر الإمام بأن ما يحدث لماء الوادي ليس إلا نذير شؤم لفساد ينخر في أرجاء دولته وكأن حدسه قد أخبره بذلك.


لم يستكِن الإمام غسان اليحمدي في قرارة ذاته بل ظل يبحث كثيرا عن الخلل الذي وجب عليه أن يكشفه ويبتره من أجل عمان وشعبها، لكنه لم يستطع في البدايات معرفة موطن الخلل، فما تخفيه النفوس لا يمكن الكشف عنه إلا بالحيلة التي اتبعها وحاول من خلالها اختبار من حوله.
وقد بدأ خطته بالسير والاجتماع منفردا بأصحاب الأموال (المزارع) وقال لهم :
لقد عزمت على مواصلة الحرب ضد القراصنة، وأموال خزينة الدولة لا تكفي، وقد فكرت بأن أجعل ذلك القرض على التجار فما رأيكم ؟!
فقال أصحاب الأموال :
التجار يسعون للفائدة، وإن قلت أموالهم ضاعت المعاملة بينهم وبين الناس، ونحن أصحاب الأموال نتكفل بإقراض الدولة وما يترتب عليه من مسؤوليات.
وبعد ذلك دعا الإمام التجار لوحدهم لذات الاختبار والاجتماع فقال لهم ما قاله عن حرب القراصنة وحاجة الدولة للمال وبأنه يريد أن يأخذ هذا القرض من أصحاب المزارع.
فقال له التجار :
أصحاب المزارع أهل حراثة، وأكثر هذه الأراضي وثمارها لا تكفي لتغطية جهدهم ولا يملكون غيرها فلا تحمل عليهم هكذا عبأ يزيد من إرهاقهم فيتأثر الزرع وبالتالي سيتأثر الناس في قوتهم.





وهنا لم يتبقَ للإمام غسان إلا اختبار وزرائه وكبار مستشاريه الأغنياء في الدولة فاجتمع بهم وأخبرهم عن عزمه بمواصلة الحرب ضد القراصنة وبأنه يريد أن يرفد خزانة الدولة بالاقتراض من أموال التجار وأصحاب المزارع.
فقال له وزراؤه ومن كان معهم :
ونعم الرأي وهكذا كنا نفكر كذلك أيها الإمام.
ومن هنا تكشف له بأن العلة تكمن في بطانته فأمر بتسريحهم واستبدالهم بالأكفأ وبمن يأتمنه على حقوق الناس والوطن ليغرق كل من كان يشك الإمام بولائه في حادثة الوادي، لتبقى هذه السيرة العطرة للإمام غسان كمثال في عدله وحرصه على البلاد وهي تحت سلطة حكمه الذي دام خمس عشرة سنة انتهت بوفاته عام 207هـ.



المرجع :

تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، تأليف الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد السالمي ، مكتبة الإمام نور الدين السالمي ، السيب – سلطنة عمان، 2008م.

Your Page Title