أثير- د.سالم الشكيلي
لا جدال ، على أن التعليم العام ، هو الأساس الذي تبنى عليه الأجيال المتعلمة ، وبقدر رسوخ ومتانة هذا الأساس ، بقدر ما تكون حال ومآل هذه الأجيال ، إمّا أن يجعل منها جيلا قادرا على مواجهة المستقبل ، والمضيّ قدما ، نحو آفاق المعرفة المختلفة ، وصولا إلى الإبداع والابتكار ، والتجديد في العلوم والمعارف ذاتها ، وإمَّا أن يكون جيلا خاملا بليدا ، غير متفاعل مع ما يدور حوله من تطورات مختلفة في شتى علوم ومهارات الحياة المتجددة
وقد جاء في الجزء الأول من هذا المقال ، ما يؤكد نمو واتساع رقعة التعليم العام كما ونوعا ، وهنا وبدون أدنى شك فإننا لا نُنكر تلك الجهود الخيّرة من المسؤولين القائمين على هذا القطاع المهم ، لكن الحياة وحسب طبيعة الكون متجددة ومتطورة ، ويبدو أن هذا التطور في عالم اليوم أصبح سريعا ومتلاحقا ، مما يستدعي مواكبته . من هنا لا يجب أن يؤخذ هذا الطرح على أنه تقليل لجهود أحد ، وإنما من باب الحوار والنقاش الهادف ، الذي يسعى إلى تسليط الضوء على أوجُه القصور فنعالجها ، أو نتحاشاها عند القيام بعمليات التطوير والمراجعة والتقييم لأي مشروع تربوي وتعليمي تمّ تجربته وطرْحه وتبنّيه في الميدان التربوي ، أو اكتشاف أوجُه القوة والإيجابية فنعززها ونطورها ونؤكد عليها ، وهذا نابع من أساس شراكتنا في الوطن ، فلا تستحوذ فئة على الشأن العام دون أخرى ما دام الأمر يتعلق بمصير الكل.
إن أزمات التعليم العام متسلسلة وطويلة ، تبدأ من أزمة الحقيبة المدرسية ثقيلة الوزن على تلامذة صغار السن ذوي بنية جسمانية ضعيفة ، ثم الجدول الدراسي ، مرورا بالحافلات المدرسية المتهالك كثيرٌ منها ، ثم اليوم الدراسي ذاته ، ثمّ ضعف إعداد الكوادر البشرية ، وتلكم المتابعة العقيمة الميدانية وغير الموجودة أصلا من مؤسسات التعليم التي تخرّجت منها تلك الكوادر، ولكن كما يبدو والله أعلم أنّ بعض تلك المؤسسات ، تركز بشكل أوضح على المادة العلمية دون طرائق التدريس المختلفة ، ولا تزرع فيهم روح المثابرة والابتكار ؛ بحيث أصبحت مهنة التدريس لدى بعض المعلمين ، عملية آليّة روتينية جامدة ، تتكرر أحداثها عند المعلم على مدار العام الدراسي ، ينقلها جامدةً من فصل طلابي إلى آخر في حقيبة بها كل الروتين المَقيت .
بالإضافة إلى ذلك ، يأتي المنهاج الدراسي ، الذي يتعلل به بعض المعلمين كسبب على قائمة الأسباب المؤثرة سلبا على كل عناصر التعليم المختلفة ، وهو وإن كان مُحِقا في هذا إلا أنه لا يجب المبالغة في شأنه كي يجعل من المعلم حجرا صلدا لا يستطيع التكيف مع كل حالات طلابه ، فلا يسعى إلى تطوير نفسه ، وليس مبررا لكثرة التبرّم والشكوى مكتفيا بذلك دون مشاركة إيجابية في طرح الحلول باعتباره صاحب القضية الأول .
والحقيقة أننا رغم العتب على بعض المعلمين إلا أنه لا يجب إغفال الدور السلبي المستفز من الجهة المسؤولة ، وهو دور الحديث فيه مُرّ ؛ أدّى بشكل مباشر إلى ضعف مخرجات التعليم العام .
ومن وجهة نظرٍ شخصية ، يمكن تلخيص تلك الأزمات ، في أربع وهي : أزمة تقليد ، أزمة عدم قدرة على التطوير ، أزمة إدارة وإشراف ، وأخيرا ، أزمة مناهج وضعف المخرجات.
وفي المجمل ، فإن الأزمتين الأولى والثانية ، لا ينفكان عن بعض ، فأزمة التقليد ، تلغي التطوير ، وغياب التطوير ، يدفع تلقائيا إلى التقليد وجرّ ما سبق .
وحتى يكون الحديث موضوعيا وغير مرسل ، نتساءل معا : ماذا تغيّر ، وأين هذا التغيير ؟ . حقيبة التلاميذ المدرسية المثقلة بالكتب وأدوات الدراسة ، والتي بلا شك تتعب تلاميذ ، لا تتجاوز أعمار بعضهم العشر سنوات ، لا تزال على حالها ، رغم مناشدات مستمرة من الأهالي وبعض الكتاب . الجدول الدراسي على حاله ، اليوم الدراسي لم يتغير ، فالطالب يخرج من بيته ، متوجها إلى مدرسته ، في السادسة صباحا ، وربّما قبل ذلك ، ليعود بعد الثانية ظهرا ، وقد أُنهكت قواه العقلية والجسدية ، أساليب التدريس المنفرة وغير المحفزة ، كمّ هائل من الواجبات المنزلية وكأنّ هناك منافسة من قبل أعضاء هيئة التدريس في كمّ التكليفات المنزلية في المادة العلمية ، بخلاف تكليف التلاميذ بمشروعات ، أحيانا لا تمتّ للعملية التعليمية بصلة ، وفي نهاية المطاف سيقوم بعملها أحد أفراد الأسرة ، ثم مصيرها مكبّ النفايات ، ليقل لنا أحد أين الفائدة التي تحققت من ذلك . كل هذه الافكار هي هي لا تتغير ويتمّ اجترارها بحذافيرها ، وتتمّ للأسف تحت سمع وبصر ومعرفة المسؤولين ؛ وكأنّ لذلك هدفا مستتِرا ، بالتأكيد هو إيجابي يَصبّ في مصلحة التعليم . لا نعرف أين يصبّ !!!!!!
منذ فترة تتردد أنباء وتصريحات عن خطط واعدة لتطوير منظومة التعليم العام ، ولكن يبدو أنها جعجعةٌ تهدف إلى الإلهاء ، يجعلنا في شكّ ، ويجعلهم في وضع مريب أن هناك مستفيدا من استمرار هذا الوضع المتردي للتعليم .
هناك من لا يستهويه التطوير ويقف حجر عثرة ، وهؤلاء أصحاب عقول متحجرة يجب أن ينزاحوا ، ولا يجب أن يكونوا ضمن أي مشاريع التطوير ، وهم بالتأكيد سيحاولون حشْر أنوفهم ؛ وإلا فسنظل ندور في حلقة مفرغة ، وسنرى وجوههم وأفكارهم من جديد ، لتبدأ دورة جديدة من التهاوي ولكن بشكل آخر ، ليقال إنه تجديد وتطوير .
التطوير لا يقتصر على الشكل فقط ، وإنما يجب أن يشمل الجوهر ، التطوير لا يقف عند المسميات ، هذا تعليم أساسي ، وذاك ما بعد الأساسي ، التطوير يجب أن يستهدف المضمون والموضوع ، وكيفية تنفيذه .
إن أوراق التعليم مبعثرة هنا وهناك ، وتحتاج إلى لملمة .
إنّ ما نتكلم عنه يُعدّ من الناحية العلمية والنفسية ، والاجتماعية ، من أساسيات العملية التطويرية التي ننشدها ، وهي البيئة الفعلية لإمكانية التحصيل العلمي .
وحتى تكون الصورة واضحة ، فالأخْذ ممن سبقنا غير مرفوض بالمطلق ، ما دام فيه ما هو نافع ومفيد ، لكن يجب التنبه ، إلى ضرورة عدم افتراض ما لدى الآخرين هو الأفضل ، ما لم تثبت أفضليته ، وليس كل ما هو أفضل عندهم يكون أفضل عندنا ، ذلك أن لنا عاداتنا وقِيَمنا وأسلوب حياتنا الخاص وقبل ذلك ديننا ، فيجب أن تتمّ مراعاة كل ذلك عند أَخْذ أو تطبيق أي مشروع .
ومن المآخذ الشديدة على المناهج طولُها ، وكثير منها حشْوٌ زبدٌ لا نفع منه ، كما وأن المسؤولين – وهي من الشكاوى المرّة – يقررون تطبيق المشروع ثم يطرحونه للنقاش ، ويوهمون الحاضرين بأنهم سيأخذون بالأفكار المطروحة بشأنه ، ولكن الحقيقة أن تلك النقاشات والمؤتمرات هي ذرٌ للرماد على العيون ، ولن يؤخذ بأي أفكار ، ذلك أن المشروع موافَق عليه ومعتمَد سلفا .
ونعود فنتساءل : ابحث عن المستفيد .
من التحديات أو الأزمات ، التي تواجه التعليم العام ، أزمة الإدارة والإشراف ، فقد أخفقت وزارة التربية والتعليم ، في توفير بيئة إدارية إشرافية ناجحة ، وتفاديا للإطالة يمكن ردّ صور هذه الأزمة إلى الآتي :
1 – عدم القدرة على تأهيل الكوادر البشرية تأهيلا علميا مهنيا عاليا ، وعدم متابعتها ميدانيا
2- عدم احتضان الكودار البشرية المؤهلة والتي لديها الخبرة ، بدليل الاستقالات الجماعية لأعضاء هيئة التدريس كل عام ، واتجاهها إلى القطاع التعليمي الخاص الذي استطاع بشكل أو بآخر ، جذْب تلك الكوادر المؤهلة ، وهو أمر لم تستطعْه الوزارة للأسف ، بل وفرّطت فيهم وفِي مجهوداتها معهم .
3- تدنّي معايير التقييم في الأداء والتحصيل العلمي
4- انصراف الاهتمام عن رسالة التعليم الأساسية بمسائل إضافية ، العلم بها لا ينفع ، والجهل بها لا يضرّ .
5- نزول كبار المسؤولين إلى الميدان روتيني هدفه “الاستعراض ” الإعلامي ، واستعداد كل منطقة بل وكل مدرسة بالتباهي بما قدّمَته لهذا المسؤول ، من حسن استقبال لائق لتنال منه كلمة ثناء تُسطّر في سجل الزيارات ، ولا يحصل أي نقاش معمق وجادّ يمكن الاستفادة منه .
6 – غياب عامل الجزاء والثواب ، فالمعلم الناجح يجب مكافأته ، والمعلم الفاشل يجب أن يحاسب ، وهو جانب مهمّ ، تعتمد فيه المصداقية والشفافية والحياد ، ويتم بناءً على معطيات واضحة .
نصل أخيرا إلى أزمة المناهج والمخرجات ، وهي أزمة تكفي لوحدها لإعاقة المنظومة التعليمية ، فمن حيث المناهج فهي ليست محل رضا من جميع أطراف العملية التعليمية ، المعلم ، والطالب ، ووليّ الأمر .
لنأخذ مثلا ، سلسلة العلوم والرياضيات ، هذه السلسلة ثبت فشلها عند أطراف العلاقة الأساسيين ، إلا عند وزارة التربية والتعليم ، فهذه السلسلة غير مفهومة للمعلم ، وغير مفهومة للطالب ، وغير مفهومة لدى أولياء الأمور ، لقد ذكر لي عدد من المعلمين ، بأن القائمين على تأهيل أعضاء الهيئات التدريسية أنفسهم ، غير قادرين على شرح السلسلة ، ومع ذلك هناك إصرار غريب وغير عادي ، لدى بعض القائمين على الأمر ، على عدم الاعتراف بهذا الفشل ، أو حتى النيل من تلك السلسلة . ( ابحث عن المستفيد )
وبحسب علمي الشخصي ، فإن لجنة التربية والتعليم والبحث العلمي في مجلس الشورى ، قامت بدراسة لهذه السلسلة ، وعمدت اللجنة إلى تجميع آراء من يعنيهم تطبيقها ، وأعتقد أن اللجنة توصلت الى وجود إشكالات في السلسلة من حيث الاختيار والتأهيل والتطبيق .
وهنا يفرض السؤال نفسه ، لماذا الإصرار على عدم قبول الرأي الآخر ؟ . في هذا الكون ، لا توجد عصمة للبشر من الخطأ ، حتى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أخطأوا في التعاطي البشري مع الأحداث ، فما بالك بِنَا نحن كبشر !!! .
أما من حيث ضعف المخرجات ، فأول شهادة تبرز بذلك شهادة مؤسسات التعليم العالي ، مما اضطر هذه المؤسسات لاستحداث سنة تأسيسية لخريجي طلبة دبلوم التعليم العام ، يصرف عليها آلاف الريالات ، وكان بالإمكان توفيرها ، لو كانت مخرجات هذا الدبلوم عند المستوى المطلوب .
نعم هناك ضعف في المخرجات ، وخصوصا في مواد اللغة العربية ، وهي اللغة الأمّ ، وفي اللغة الأجنبية ، والمواد العلمية الأخرى .
وبهذا نكتفي بالحديث عن التعليم العام ، وبالتأكيد فإنني لم أُحِط بالموضوع لأنه شائك ومتفرع وصعب ، ولكن يبقى هدفنا التنبيه إلى أهميته ، وإعطاء صدمة إفاقة ووَخز تنبيه للمختصين والمسؤولين ، إلى أهميته .
وإلى اللقاء في الجزء الثالث بمشيئة الله، والله الموفق