أثير- مكتب صلالة
كتب: محمد حاردان
للسماء أبواب، و للأرض مواقع، وبين هذه وتلك، حكاية نسجت خيوطها عبر التاريخ والأزمنة الغابرة، هنا منبع الأسطورة عن أول قطرة دم سالت على هذه الأرض، قتل قابيل .. وسالت دماؤه في الأرض منبتة شجرة دم الأخوين “العيريب” على تخومها، لتكون شاهدًا على تلك الجريمة للأبد هكذا يُحكى قديما عن الشجرة الغريبة.

“فيزاح ” ( الفزايح ) الأرض التي اكتنفها الغموض وسحر الخرافة، يحيطها “النغش” لمخاطبة الأرواح الغائبة ، نأت بنفسها فحفظت إرث الأجداد وصانت العهد ،والنغش هو ما ينثر من مأكل أو مشرب أو كساء لخلق آخر غير البشر. زارتها “أثير” فكانت هذه السطور عنها.
“شُلَه يا الله ، مَن الله آر مُّوحٌود، بَجيعًوت آتولشّ”.هذه الكلمات ليست طلاسم أو رموزًا ، لكنها مفاتيح لاختراق عالم آخر، وجسر وصول إلى خلق آخر ، ولله في خلقة شؤون وتعني العبارة أعلاه “يا الله ربنا و بأمان الله ابن محمد والمجموعة التي عنده”
لا تزال فيزاح كما كانت منذ الخلق الأول محتفظة بكل تفاصيلها البكر، عذراء فاتنة انحنى على قدميها الجمال السحري، تستلقي وادعة بين شموخ راس خزمة “ساجر” من الغرب ،ومن الشرق تحفها هضبة “اعيداج” ،مزهوة بغلالتها الخضراء وإكليها الليلكي، يعبق أريجها من زهرة البلسم والريحان الظفاري، ويفوح منها الخروع الجبلي.
عطرها اللبان ونبتة “القيرط” أزكى من العود يطل من عليائها شموخ جبال “جُحد” ويناغي أقدامها شاطئ من زبرجد فضي.

عين “اهام ” أي عين الأفعى ، ذات الماء الوجاج وبحسب الخرافة القديمة ،فإن هناك أفعى كبيرة كانت تحرس اللبان الشزري الموجود في المنطقة، وهو صنف من اللبان لا يشبه الحوجري ولا النجدي، قاتم لونه يميل إلى السواد ، وبه فصوص من اللبان الذكر الذي يستخدم لتحضير الأرواح.
فيزاح لم يتغير منها إلا اسمها الذي تم تحويره إلى الفزايح واسمها الحقيقي كما يلفظه أهلها باللغة “الشحرات “، وتعني الأرض ذات الحطام المتناثر والصخور المتراكمة، وتعني كذلك الأرض كثيرة الخلجان، و ليس “الفزايح” ،الاسم الحديث المعرب الذي بات مستهجنا لدى أهالي المنطقة.
تقدر مساحتها الطولية بحوالي 10 كيلو مترات من الحد للحد، وعرضها من 2 إلى 3 كيلو مترات.
تختلف طبيعتها الجيولوجية والجغرافية عن باقي المناطق الساحلية في ظفار، وهي المنطقة الوحيدة على ساحل ظفار التي تتميز بأشجار اللبان الطويلة نسبيًا عن غيرها في ظفار، تتشابه خصائصها إلى حد كبير مع جزيرة سقطرى في اليمن الشقيق.
تبعد المسافة من المغسيل إلى منطقة فيزاح حوالي 25 كيلو مترا غربًا عبر الطريق الذي يصعد بك عقبة قيشان، ثم تسلك طريقا ترابيًا للوصول إليها يبلغ حوالي 6 كيلو مترات نزولا ، وقد شق الطريق عام 2008. وبينها وبين المغسيل ثلاثة أميال بحرية عبر القارب.
أهم معالهما تتمثل في “غور، ديفورت” وهي بئر ماء مالحة نظرا لوجود عنصر الكبريت، وخيصة سليمة الشرقية والقبلية، وهي نسبة إلى سليمة بيت باقي . وهناك معلم آخر هو الحصن الذي لا تزال أطلاله باقية إلى الآن، وهو برج أثري قديم شيّده علي أحمد قربوش باقي قبل ما يقارب 450 عاما.

خيصة المسجد معلم آخر يوثق وفاة أحد الملوك الأفغان، واسمه أمان الله محمد الذي توفي في عرض البحر قديمًا ، حيث كان في رحلته البحرية لأداء فريضة الحج، ويقع ضريحه في مقبرة الفزايح، وسُمي المسجد باسمه تيمنًا به وتخليدًا لذكراه.
خيصة “ميرحت” نسبة إلى المرح والراحة وبها ميناء طبيعي يستخدم قديمًا مرسى للسفن والمراكب الشراعية، كذلك بها برجٌ لمراقبة السفن والمراكب العابرة، ولا تزال آثاره باقية إلى الآن.
خيصة “قرحفن” وسُميت بهذا الاسم نظرا لوجود خليج أو كاسر للأمواج تتجمع فيه أسماك السردين ، ونسبة أيضا لصوت قحقحة المحار مع هدير الموج.
خيصة “غيشار” وتعني الحصاد أو الجز وكانت قديمًا محطة لتجميع اللبان وتصديره إلى مختلف الأماكن عبر البحر.
تعد “سنخت” من ملامح فيزاح المميزة لكونها شديدة البياض، وذلك لوفرة أحجار اللايمستون البيضاء ، ويوجد بها عين ماء مالحة.
جزيرة (أحمد نشرون) وبها برج نشرون لمراقبة السفن وتوجد آثاره متناثرة في الجزيرة وأطلاله باقية إلى اليوم.
تقع العين الوحيدة التي ينبع منها ماء عذب في خيصة “أوضوء” وتعني عين الغدير ، لكن الولوج إليها صعب لكونها تنبع بالقرب من مكسر الأمواج في البحر، ويقصدها الناس في فترات ومواقيت معينة خاصة في فترة الشتاء وأوائل القيظ نتيجة لانخفاض منسوب مستوى البحر.
على الرغم من صغر حجم الفزايح إلا أنها سعة للجمال تفوق الوصف وكل شبر من ترابها يستدعي الوقوف والتأمل فيه، وتعجز المفردات حصر جلال البهاء في جمل أو عبارات.
أبراج منطقة فيزاح أصابها الضرر في مطلع سبعينيات القرن الماضي من خلال بعض الجولات التدريبية العسكرية في المنطقة ودون علم بوجود آثار تاريخية في المنطقة .
وأهالي مطقة فيزاح يتحدثون عن أهمية ودلالات الاسم القديم فيزاح ولا يستصيغون ما يُطلق عليها حاليا ( الفزايح ) ويتمنون إعادة مسماها كما كان فيزاح لما فيه من دلالات وجدانية ترسخ الأصالة والهوية، وكذلك ترميم الأبراج لحفظ الموروث والتاريخ للأجيال القادمة، وتعيين وتكليف من يراقب المنطقة للحفاظ على نباتاتها وأشجارها وبيئها الفريدة والنادرة من الانقراض والتخريب من عبث الجاهلين والمحافظة على البيئة الفطرية والنباتية والبحرية خاصة بعد أن أصبح الوصول إليها سهلا ميسورا، ورصف الطريق الترابي مع مراعاة إبقاء طابعها العذري ملكية عامة وحقًا للجميع.
يمر الدهر ويُلقي بظلاله على الأرض، تشيخ الوجوه وتبقى عروس جبل القمر في ريعانها تلامس زهر الجبل والمروج براحتيها تناظر بعينها شموخ ساجر إلى مغيب الشمس ، ويطل عليها البدر ليؤنس وحدتها، وتستمر حكاية البقاء والأسطورة في منطقة فيزاح.
*صور الخبر من تصوير المصور العماني أنس الذيب