د. رجب بن علي العويسي- خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية
في مجلس الدولة
بات الحديث عن دور أعمق للتعليم في صناعة الإنسان، أولوية يجب أن تضعها مؤسساته كخيار استراتيجي لها، فالإبقاء على حالة الاستهلاكية والاجترار المعرفي التي تعايش المتعلم في سنوات دراسته سواء ما قبل المدرسة وفي اثناء المدرسة والتحاقه بمؤسسات التعليم العالي والجامعات، أضحت أحد المشوّهات التي ينبغي للتعليم أن يتخلص منها، فيبني في محتواه وآلياته مسارات تعلم أكثر نضجا ومهنية وواقعية، بحيث تتعاطى مع العنصر البشري كركيزة أساسية تنطلق منها كل موجهاته القادمة على مستوى السياسات والخطط والبرامج والاستراتيجيات، في إطار تمكينه من إدارة واقعه بكفاءة عالية ورسم ملامح مستقبله في ظل بصيرة وحدس بالتوقعات،.
على أن الواقع المنظور لحياة المتعلمين في أغلب الأحيان – مع عدم التعميم- يشير إلى وجود حالة من الانفصال بين التعليم كمنظومة ممارسة ومبادئ واستراتيجيات وأدوات وبينه كونه كمنتج يظهر في بنية حياة المتعلم وصقل شخصيته، مما يعني الحاجة إلى الرجوع بالتعليم إلى الحالة الطبيعية الأصيلة له المتعلقة ببناء الإنسان الواعي قلبا وقالبا، مما يؤكد أهمية البحث عن ممكنات من رحم التعليم نفسه تضع المتعلم أمام تحولات قادمة في مساره التعليمي وعاداته الاستهلاكية التي ظلت تلازمه في فكره ووجدانه وقناعاته، حتى اتسعت الفجوة وزاد مستوى اغتراب التعليم عن الواقع وأزمة ثقة المتعلم في قدرة التعليم على كسبه واحترام ميوله ورغباته، ما اسهم في زيادة حالة التقليد التي يعيشها، والتقمص لشخصيات المؤثرين عليه في واقعه اليومي وتأثره بهم خاصة مع ظهور مشاهير السوشل ميديا والمؤثرين في منصات التواصل الاجتماعي، وانعكاسات ذلك على مسارات التفكير لديه، وحس المسؤولية والاعتماد على النفس، وقوة التحمل والصبر وحكمة التعامل مع الازمات أو من خلال قراءة معمقة قادرة على استجلاء الواقع ورسم خريطة ذهنية في التعاطي مع المواقف ، وتوظيف المعلومات والأفكار المتراكمة التي تحويها المناهج الدراسية ويمتلكها الممارسين للتعليم، وطريقة توظيف التعليميات والتوجيهات والأنشطة في رسم صورة مكبرة في التعامل مع المواقف والاجابة عن التساؤلات المطروحة في واقعه.
وبالتالي فإن التخوف من بقاء هذه المعارف والمعلومات خامدة هاملة غير مستخدمة بطريقة سليمة، وبدون نقلها إلى حيز الفعل والتطبيق أو توجيهها في إطار تعديل السلوك وضبطه، سوف يترك بصماته على شكل المنجز الناتج، وانعكاساته السلبية على خطوط التأثير الأخرى المطلوب من التعليم تحقيقها النفسية والعاطفية والاجتماعية والفكرية والعادات اليومية التي تستدعي من التعليم امتلاك خاصية تحوريها وتحويلها إلى منتج فكري وثقافي يظهر على سلوك المتعلم ويقّوم أداءه. فإن ما تعيشه الأسر والآباء اليوم من هاجس القلق والسلبية وكثرة الاهتمام بخصوصيات الأبناء سواء في عدم تناوله للطعام أو ضعف أدائه للواجبات الحياتية اليومية بما فيها من عبادات وعادات والتزامات ومسؤوليات ، ناتج عن ضعف قدرة المتعلم على تحويل هذه المعلومات والأفكار والمبادئ إلى ممارسات سلوكية وإنتاج يظهر على شخصيته وانتاجه، واكتشاف ما بداخل المعلبات الفكرية التي تصل اليه بدون تمحيص أو تقنين أو نقد، إلى تمكينه من إعادة تقييمها وترقيتها وتوجيهها بطريقة تبرزها في ثوب القوة والتأثير الإيجابي لها، وتغيير قناعات الآخرين في عالمه حول الكثير من المفاهيم والمغالطات والاحكام والشائعات التي باتت تمارس أحيانا بطريقة لا شعورية وبدون انتباه من قبل حتى من يحملون المعرفة، بما يؤكد في الوقت نفسه مسؤولية التعليم في تبسيط هذه المعلومات وتنقيتها وترقيتها في فقه المتعلم ووجدانه وخلق تناغم لها في قناعاته وتأصيل حضورها في كل مواقفه واستحضارها عند شعوره بالحاجة إليه، ليستعيد خلالها نشاطه وقوة أدائه.
إن قدرة التعليم على تقريب الصورة وتبسيط المفاهيم ونقلها من التنظير إلى الممارسة، لتكون بوصلة المتعلم في الوصول إلى المدركات الخارجية، يستدعي إعادة النظر في طرائق التدريس وثقافة التعليم والتعلم، والاكثار من التطبيقات العملية، والمحاكاة للواقع في بيئات متجانسة مفترضة، وصناعة النماذج وتحويل بيئة التعليم من حشو ذهن المتعلم وإعطائه سيلا من الأوامر والنواهي والالتزامات، إلى التوسع في ثقافة التعلم المنتجة، وتعزيز حضور النماذج الواقعية في حياة المتعلم وتقريبها إلى ذهنه، وعندها سوف يضمن قدرة المتعلم على تصحيح مسار تعلمه وبناء اتجاهاته وتعزيز حضور المعرفة النظرية واستدعائها المستمر لتشكل داعما للمتعلم لا عبئا عليه، على أن تأصيل هذه المنطلقات لضمان تحقق التعليم المنتج الذي ينعكس على فكر المتعلم وقناعاته وسلوكه وخيالاته وأسلوبه وذوقه ونمط تفكيره وطريقة استغلاله للفرص ومدى حرصه على إدارة الوقت ورصانة فكره، وامتلاك أدوات صناعة البدائل وإدارة المشاريع والتفكير خارج الصندوق واختصار الوقت الذي يقضيه لصناعة انجاز عملي، والاستقرار الفكري الذي يعيشه في تبويب شيوع المعرفة وضبط مساراتها وتقنين مصادرها ، وقدرته على ترك بصمة انجاز حاضرة في واقعه عبر الثبات على المبادئ والتخطيط المدروس والتنظيم الفعال؛ يتطلب تحولا جذريا في ثقافة التعلم وقراءة محتوى ما بين السطور، فيتجاوز خلالها المتعلم حالة الخمول الفكري والعجز المعرفي مرددا للمعلومات، حبيسا للمفردات، مجتّرا لمعلباتها، هاملا في تصويب أخطائها أو صياغة محتواها، لتقترب أكثر فأكثر من واقعه وتحتوي أحلامه وتنهض بدوافعه وتلامس مشاعره. فهل ستدرك مسارات التطوير الحاصلة في الممارسة التعليمية هذه التحولات لتنقل المتعلم من الاجترار والاستهلاك إلى الالهام والإنتاجية؟