أبجد

الدكتور محمد العريمي يكتب: تسامح العمانيين كما رأته عيون الرحّالة البريطانيين

الدكتور محمد العريمي يكتب: تسامح العمانيين كما رأته عيون الرحّالة البريطانيين
الدكتور محمد العريمي يكتب: تسامح العمانيين كما رأته عيون الرحّالة البريطانيين الدكتور محمد العريمي يكتب: تسامح العمانيين كما رأته عيون الرحّالة البريطانيين

الدكتور محمد العريمي

منذ خطبة الخليفة الأول أبو بكر الصدّيق الشهيرة “يا معشر أهل عُمان إنكم أسلمتم لله طوعاً ولم يطأ رسول الله ساحتكم بخف ولا حافر ولا جشمتموه كما جشمه غيركم من العرب، ولم ترموا بفرقة ولا تشتت شمل، فجمع الله على الخير شملكم “، وصحيح مسلم الذي أورد في باب فضائل أهل عمان، عن أبي برزة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلاً إلى حي من أحياء العرب فسبوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله فأخبره، فقال رسول الله: “لو أن أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك”.. وصولاً إلى النظام الأساسي للدولة الصادر في 1996 والذي يكفل للأفراد حرية الدين وممارسة الشعائر والطقوس الدينية، كما يمنع أي نوع من الاضطهاد أو الإساءة على أساس الدين، وقبله عشرات المواقف والشهادات والإشادات والخطابات والجوائز التي أكّدت – وتؤكّد – على نهج التسامح الذي اعتمده قائد البلاد المفدّى وباني نهضتها نبراساً وطريقاً يميّز ملامح حكمه الرشيد بالتوازي مع عشرات القيم النبيلة الأخرى، مروراً بمئات القصص والمواقف التي حوتها كتب التاريخ وكتابات الرحّالة على اختلاف جنسياتهم عن تسامح العمانيّين تجاه بعضهم البعض حكاماً وشعباً، وتجاه الآخرين، نجد أن التسامح أصبح لديهم سمة حياة أكثر من كونه مجرّد قيمةٍ نبيلة.

ولو تتبّعنا سيّر العديد من الأئمة والحكام الذين توالوا على عمان لوجدنا الكثير من القصص والمواقف التي تدل على تسامحهم مع الآخر؛ فالإمام الوارث بن كعب أمسك عن قتل عيسى بن جعفر قائد الجيش العباسي الغازي لعمان زمن هرون الرشيد، وذلك بناءً على فتوى الشيخ العالم علي بن عزرة الذي قال له” إن قتلته فواسعٌ لك، وإن تركته فواسعٌ لك” ( ابن رزيق، الفتح المبين، ص198) فأمسك الإمام عن قتله على الرغم من الفظائع التي كانت ترتكبها الجيوش العباسية في سبيل رغبتها في السيطرة على عمان، كما حدث في موقعة جلفار الثانية واستشهاد الإمام الأول الجلندى بن مسعود.

كما أن قصة السلطان الفلاح بن المحسن النبهاني مع الإحسائي الذي وفد عليه عندما رحب به ولاطفه بالتحية، وأقبل عليه بالبشاشة الكلّيّة بعد أن رأى مدى الرعب الذي حلّ بالرجل من هيبة الإمام ( ابن رزيق، المرجع السابق، ص220) لدليل آخر على مدى التسامح الذي يكنّه حكّام هذا البلد على اختلاف أنظمة حكمهم، وتوجهاتهم السياسية والدينية، ” ولنا في الإمام ناصر بن مرشد اليعربي قدوة حسنة في التسامح، ففي الاتفاقية التي عقدها الإمام ناصر مع ممثل الإنكليز فليب وايلر عام 1642 م حول تنظيم التجارة بين عمُان وشركة الهند الشرقية الإنكليزية أذن الإمام لهم بممارسة طقوس ديانتهم المسيحية في عمُان” ( د. حسين شحادة، جريدة العرب، الثلاثاء 12/ 11/2013)، ولا يمكن الحديث عن تسامح حكّام عمان دون الإشارة إلى قصة الإمام سلطان بن سيف الثاني مع الإعرابيّ الذي قابله في الطريق وطلب منه شربة ماء بدون أن يعرفه، وقصته الأخرى مع التاجر اليمني الذي سرقت أمواله وإصرار الإمام على استعادتها ولو من أقصى الأرض ومعاقبة السارق (ابن رزيق، ص260).

ولو أتينا إلى عهد الدولة البوسعيديّة لوجدنا العديد من المواقف التي تدل على تسامح الأئمة والسادة والسلاطين والتي قد لا يتسع هذا المقال لسردها، وسترد بعض جوانبها في ثنايا استعراض كتابات الرحّالة البريطانيين عن عمان لاحقاً، ولعل من يتناول سيرة السيد سعيد بن سلطان سيكتشف مدى التسامح الكبير الذي كان يبديه هذا السلطان سواء من خلال مواقفه الحياتيّة اليوميّة، أو من خلال بلاطه الذي حوى كوكبة متعددة من القضاة والولاة ورجال الدين والقادة من مختلف الطوائف والمذاهب دون تفريقٍ بين مذهبٍ أو طائفةٍ وأخرى، لدرجة أن باحثة عمانيّة هي الدكتورة بدرية الشعيبية قد خصصت كتاباً كاملاً للحديث عن ( التسامح الديني وآثاره في حكومة السيد سعيد بن سلطان).​

أما في عهد النهضة الحالي فيكاد لا يمر يوم في حياة قائدها العظيم منذ العبارة الصادقة “عفا الله عما سلف.. عفا الله عما سلف” التي تضمنها خطاب 9 أغسطس 1970 وحتى كتابة هذا المقال، دون موقفٍ يتجلى فيه تسامح هذا القائد الفذّ، ولو أردنا حصر المواقف والسياسات والشهادات وآراء الآخرين تجاه هذا السياسة لاحتجنا إلى أسفارَ كاملة لا يتسع لها مقال بسيط كهذا!

وفي هذا المقال سأقتطف بعضاً من الشهادات التي تدل على مدى التسامح الكبير والملفت للنظر الذي اتّسم به أهل هذه الأرض الطيّبة، بحيث كان من أبرز ما يشد الزائر إليها على مختلف مشاربهم، كما وردت في الكتاب المعنْون باسم ” عمان في عيون الرحالة البريطانيين. قراءة جديدة في الاستشراق” الصادر عن دار الانتشار العربي بدعمٍ من النادي الثقافي في إطار (البرنامج الوطني لدعم الكتاب)، لمؤلفه الدكتور هلال بن سعيد الحجري والمترجم الدكتور خالد البلوشي، وهو كتابٌ مهم يتناول ستّة فصولٍ تتناول بالتحليل الدقيق تفاصيل دقيقة عن حياة العمانيين كما رآها وصوّرها عدد من الرحّالة البريطانيون خلال الفترة من 1800 حتى 1970.

ونبدأ بالصفحة 118 من الكتاب حيث يقول الرحالة جون أوفنجتن في زيارته لعُمان عام1693 وهو يصف العمانيين: “إن هؤلاء العرب على قدر كبير من دماثة الخلق، يُظهِرون لطفًا وكرمًا كبيرين للغرباء، فلا يحتقرونهم ولا يُلحِقون بهم أذى جسديًّا. وهم على تشبثهم الثابت بمبادئهم والتزامهم الراسخ بدينهم، لا يفرضون تلك المبادئ وذلك الدين على الآخرين. كما أنهم لا يغالون بالتمسك بها مغالة تجردهم من إنسانيتهم أو من حسن معشرهم، فالمرء يقطع في بلادهم مئات الأميال دون أن يتعرض للغة نابية أو لأي سلوك فج”
ويذهب أوفنجتن ليصف أسرى العمانيين في الحروب التي جرت بين العمانيين والبرتغاليين بأنهم “كانوا يعاملون معاملةً كريمة أغرتهم بأن يقعوا في حب حياة الأسر؛ إذ أن العمانيين لم يعاملوا أسراهم معاملة السادة للعبيد، فلم يجبروهم على القيام بأعمال شاقّة مذلّة، ولم يقفوا منهم موقف الرقيب والحسيب، وإنما أنزلوهم منزلةً فيها طمأنينةً وراحة، بل زوّدوهم بالمؤن وقسطاً من المال لسدّ حاجاتهم اليوميّة” (الحجري، ص119).


ونطالع في صفحة 121 من الكتاب أن الكسندر هاملتون الذي زار عمان عام 1715 كان مشدوداً بـ” تواضع أهلها وتحضّرهم الفريدَين”، ويورد مثالاً على ذلك فيقول أنه بينما كان ماشياً ذات مرّة في شارعٍ ضيّق إذ به أمام حاكم البلاد، فتنحّى عن الطريق حتى يمرّ موكب الحاكم، إلا أن هذا الأخير بعد أن أدرك أنه غريب عن البلاد، أمر حرّاسه بأن يبتعدوا عن الطريق، وأومأ إليه يستدنيه، كما يضيف هاملتون أن مأدبة عرب مسقط لم تقتصر على أفراد معيّنين، وإنما كان ” الملك وعوام الجند والسيد والمسود جميعهم يجلسون جنباً إلى جنب، ويأكلون من الطبق نفسه”.

وفي الصفحة 126 يصف ماثيو جينور الذي زار مسقط في العقد الأخير من القرن التاسع عشر سكّان مسقط بأنهم ” شجعانٌ ذو وجوهٍ وسيمة، ليس لسوء النيّة من سبيلٍ إلى قلوبهم”، بينما يصف السير جون مالكوم حكم إمام عمان السيد سلطان بن أحمد في الصفحة 128 من الكتاب بأنه كان أقرب “إلى طابعٍ أبويّ منه إلى طابعٍ استبدادي”.

أما الرحّالة وليم هيود الذي زار عمان عام 1816 فذكر أن ” من أهم ما تمتاز به مسقط من غيرها من المدن العربيّة هو أن سكانها، بجميع فئاتهم، يعاملون الأوروبيين معاملةً تتسم بالاحترام واللطف، فهنا الرجل الإنجليزي يمكنه الذهاب حيث شاء دون إزعاج أو مضايقة” (الحجري، ص135)، وكان القبطان روبرت مجنان الذي زار مسقط عام 1820 معجباً بتسامح العمانيين الديني، فقد وجدهم ” غير متعصبين، وغير متشدّدين”
وفي صفحة 157 يقدم الكابتن وليم أوْوِن الذي زار مسقط عام 1823 رؤيته حول تسامح عرب مسقط الديني؛ إذ كان هناك حدثان شهدتهما مسقط أقنعاه بأن ” التعصب ليس مما تعاب به مسقط”، من بينها أنه أهدى النسخة العربية من الإنجيل إلى سلطان مسقط السيّد سعيد فتقبّلها هذا الأخير ” راضياً مسرورا” على اعتبار أن الإنجيل يقر به القرآن كتاباً مقدساً.
ويرى الكابتن جورج كيبل الذي زار مسقط عام 1824 ووصف بلاط السيّد سعيد “إن البساطة الأبويّة للشخصيّة العربيّة واضحة أشد الوضوح في كل شيء له شأن بهذا البلاط؛ ففي ديوان الإمام اليوميّ تجد أن أي شخص له الحق في أن يجلس أينما يريد دون تفضيل لهذا أو ذاك، بل اللافت أنه حتى الشحاذون يمكن أن يطلبوا الوقوف بين يديه، وهم على يقين بأنه سيكون آذاناً مصغية لسماع تظلّماتهم وشكاواهم”
وفي الصفحة 175 يصف روبرت بنينج الذي زار مسقط في طريقه من فارس إلى سيلان سلطان مسقط السيد سعيد بن سلطان بأنه ” في كل الأحوال مختلف كثيراً عن معظم الحكام الآسيويين المستبدين” كما نوّه بسماحة أهل مسقط في تعاملهم مع المعتمد البريطاني اليهودي حيث كانوا يعاملونه بكرم ولطف وينادونه بـ”السيّد” ويقول في ذلك “أعجب ما عجبت منه هو الاحترام الكبير الذي كان يكنّه مسلمو هذه البلاد لذلك اليهودي….”
أما المستكشف وليم بلجريف الذي زار عمان عام 1863 فيرى أنه” بناءً على تجاربي وخبراتي، أرى أن العمانيين ألطف العرب مزاجاً وأحسنهم وفادةً وأحلاهم ودّاً، مجمل القول إنهم أفضلهم دماثةً وأدباً، بلغ تسامحهم مبلغاً لم يُعرف في أي مكان حتى في أوروبا….”(الحجري، 191)
ويتحدث السير بيرتي كوكس أحد القناصل الإنجليز الذين عملوا في الخليج، في صفحة 210عن رحلات قصيرة قام بها في عمان؛ ففي عبري ” أصر الجميع؛ رجالاً ونساءً وأطفالاً على مصافحته رغم أن الجو كان حاراً جداً”، وفي الجبل الأخضر أحاط به جمعٌ من ربّات المنزل اللاتي ودّعنه بعد محادثةٍ مهذّبةٍ ولطيفةٍ بقولهنّ: ” أوصلك الله سالماً”، وفي سيق كان القرويون ” شديدي اللطف والود” فاستقبلوه بكل حفاوةٍ وتقدير.
ويصف ويلستد الذي زار عمان في بداية العقد الثالث من القرن التاسع عشر السيد سعيد بن سلطان عندما التقى به في زيارته الأولى إلى مسقط” لم أر قطّ حاكماً كان أقرب منه إلى النموذج الخيّر للأمير الشرقي”، و” إن أهم ما تتسم به حكومة هذا الأمير هو بعدها عن ضروب القمع والعقاب العشوائي، وسعة صدرها لكل المعتقدات وتسامحها معها، وإبداؤها الكرم واللطف الكبير لتجار أي بلد يفدون إلى مسقط ويقيمون بها”
وأختتم هذا المقال بإشارة ويلستد الواردة في كتابه ( رحلة في شبه الجزيرة العربية) “..لذا أكتفي هنا بأن أؤكد أن سكّان عمان يبدون تسامحاً أكثر بكثير مما يبديه بقيّة المسلمين”.





المصادر والمراجع:
1- إبن رزيق، حميد بن محمد. الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين، تحقيق عبد المنعم عامر، محمد مرسي، ط5، وزارة التراث القومي والثقافة،1994.
2- الحجري، هلال. عمان في عيون الرحالة البريطانيين، ترجمة د.خالد البلوشي، دار الانتشار العربي، بيروت، 2013
3- شحادة، حسين. جريدة العرب، الثلاثاء 12/ 11/2013
4- الشعيبية، بدرية بنت علي. التسامح الديني وآثاره في حكومة السيد سعيد بن سلطان، بيت الغشام للنشر والترجمة، مسقط.2015
5- ولستد، جيمس ريموند. تاريخ عمان رحلة في شبه الجزيرة العربية، ترجمة عبد العزيز عبد الغني إبراهيم، دار الساقي ، بيروت، 2002




Your Page Title